تركيا – إسرائيل: ستارٌ على مَسرَحِ دافوس!

محمد قواص*

ستعود علاقات تركيا وإسرائيل إلى سابق عهدها. سيستأنف البلدان تبادل السفراء والقناصل وستُطوى صفحةُ التوتّر التي بدأت فعليًّا منذ المشهد الشهير لانسحاب رجب طيب أردوغان من منتدى دافوس في كانون الثاني (يناير) 2009.

احتجّ الرئيس التركي حينها على الحرب التي شنّتها إسرائيل ضد قطاع غزة. وقف مُؤنِّبًا الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز، ثم غادر الجلسة في مشهد نقله الإعلام العالمي مباشرة. بدا أن موقفَ الرجل استعراضٌ له مرامي لا تتعلّق بالضرورة بفلسطين وقضيتها، بل بأجنداتٍ طموحة كُشِفَت خفاياها بعد اندلاع “الربيع” في المنطقة.

تفاقَمَ التصعيدُ والتوتّرُ في علاقات تركيا وإسرائيل لاحقًا حين هاجمت قوات إسرائيلية في أيار (مايو) 2010 ناشطين أتراك أبحروا على متن سفينة “مافي مرمرة” للتضامن مع غزة فقتلت وجرحت منهم العشرات. في المنطقة عندنا من أسقط نضالات العرب وراح يُبشّر بالسلطنة وزمن الباب العالي.

الموقفُ التركي ليس مُستَغرَبا آنذاك في علومِ العلاقات الدولية وأُصولِ الحُكمِ والتمدّدِ في الكتب الكلاسيكية القديمة. والموقف التركي هذه الأيام ليس مُستَغرَبًا أيضًا في نصوص تلك العلوم والكتب نفسها. تسبّبت غزة ومآسيها في تدهور علاقات تركيا وإسرائيل، ويحتفل البلدان هذه الأيام بالتطبيع الكامل لعلاقاتهما الديبلوماسية بعد أيامٍ على انتهاء حربٍ جديدة مُوجِعة شنّتها إسرائيل ضد القطاع.

الحدثُ يأتي مُنسَجِمًا مع سياقِ نُزولِ تركيا عن شجرةٍ عالية تسلّقتها السياسة الخارجية لأنقرة مَنهَجًا في التعامل مع ملفّاتٍ عديدة في المنطقة. تبدّلَ الزمن وترجّلت ظروفٌ أخرى وانقلبت الأولويات في تركيا. أشياءٌ كثيرة تغيّرت في تركيا. بالمقابل لا شيء كثيرًا في الغيّ ضد الفلسطينيين قد تغيّرَ في إسرائيل يُبرِّرُ تحوّل الخطاب التركي حيال إسرائيل من النقيض إلى النقيض.

في الأيام الأخيرة “ارتكبت” السياسةُ الخارجية التركية سلسلةَ أعراضٍ تُحضِّرُ البلد لانقلابٍ في سياسةِ أنقرة مع دمشق. ومَن يُلَوِّحُ بإمكاناتِ الوَصلِ مع النظام في سوريا، لن تصعَبَ عليه الحجّة في طيّ صفحةِ الخلافِ مع إسرائيل.

في حالة سوريا وعدت التصريحات التركية بأنَّ أيَّ تبدّلٍ في السياسة التركية حيال دمشق لن يأتي على حساب “القضية” والمعارضة السوريتين. وفي الحالة الإسرائيلية يَعِدُ وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن بلاده لن تتخلّى عن “القضية” الفلسطينية على الرُغمِ من إعادة العلاقات كاملة مع إسرائيل. لا بل أكثر من ذلك يُخرِجُ الرئيس التركي خلال مؤتمرٍ للسفراء الأتراك في أنقرة أخيرًا وصفةً تفتي أن تجديدَ العلاقات بين إسرائيل وتركيا (وليس مشهد دافوس والقطيعة) سيُتيح للأتراك مساعدة “إخوتهم الفلسطينيين”.

يُوفِّرُ الحَدَثُ هدايا انتخابية يسعى إليها يائير لابيد لاستثمارها في انتخابات الكنيست المقبلة، ويوفّر أيضًا لأردوغان، مع سلسلةٍ من التحوّلات الديبلوماسية في العلاقة مع دولٍ أخرى، لا سيما السعودية والإمارات ومصر، أدواتُ إعدادٍ للانتخابات في تركيا في حزيران (يونيو) من العام المقبل.

تعود علاقات تركيا وإسرائيل إلى عادياتها بعدما عمل البلدان بدأب على ترميمها. زار الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ تركيا في آذار (مارس) الماضي فاستُقبِلَ بحفاوة. وتبادَلَ وزيرا خارجية تركيا وإسرائيل الزيارات الرسمية “البنّاءة” وتوقّفت الحملات الإعلامية المُتبادَلة.

سهلٌ في هذا السياق استنتاجُ أن لهجة تركيا في “التعليق” على حرب غزة الأخيرة كانت هادئة مُعتَدِلة وتكاد في الدعوة إلى وقف الحرب تُساوي بين أطرافها. كما أن امتناعَ حركة “حماس”، القريبة من أنقرة، عن المشاركة في الحرب الأخيرة والنأي بنفسها عن المشاركة في الردّ على الهجمات الإسرائيلية ضد حركة “الجهاد الإسلامي”، لم يكن بعيدًا من “تمنياتٍ” تركية في هذا الصدد لاحظتها إسرائيل جيدًا.

واللافِتُ أن تراجُعَ العلاقات الديبلوماسية وسحب السفراء بين البلدين منذ العام 2018، لم يمنع من استمرار علاقات “البزنس” بينهما من دونِ أيِّ تأثّرٍ يُذكَر. وَصَلَ حجمُ التبادُلِ التجاري بين تركيا وإسرائيل في العام 2021 إلى 8.1 مليارات دولار، ما يعني أن البُنى التحتية لتطوير العلاقات الاقتصادية، لا سيما في قطاع الطاقة والغاز، حاضِنةٌ واعدةٌ لرَفعِ مُستوى المنافع الاقتصادية لكلا الطَرَفَين.

تُرتِّبُ تركيا علاقاتها مع دول المنطقة بحساسيّةٍ وحذرٍ على نحو يسعى لأن يكونَ مَحسوبًا. تقتربُ تركيا من إسرائيل فيما تَنخَرِطُ الأخيرة في حربٍ غير مباشرة وأخرى موعودة ضد إيران جارة تركيا وشريكتها في أستانا. تُناوِرُ أنقرة في حراكها بين موسكو وواشنطن، ويبدو ملف إسرائيل مُكَمِّلًا لاستراتيجيةِ تَعَدُّدِ الخيارات وتَنَوُّعِ العلاقات. لم تنقطع العلاقات المخابراتية الأمنية بين البلدين حتى في عزّ القطيعة، حتى أن لابيد اعترفَ بأن تعاونًا وثيقًا مع تركيا أسفر عن إحباطِ مُحاولةٍ إيرانية لاستهداف إسرائيليين.

لا شيء غير منطقي في تحوّلات تركيا القديمة الجديدة. ما هو غير منطقي هو إبحار بعض أهل المنطقة في أيّة مراكب والنفخ في أشرعتها مهما تعدّدت موانئها واختلفت اتجاهات رياحها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى