سوزانَّا والشيخان (1)

“الشيخان يفاجئَان سوزانَّا وهي تستحمّ” بريشة جِنْتيلِسْكي (1610)

هنري زغيب*

(إِلى أ. ن.)

لا أَكتب هذا النص، فُصُولًا، من منطَلَق عرقيّ، وأَحداثُه من بيئة يهودية (في القرن الثاني قبل الميلاد)، ولا من منطَلَق دينيّ، و”سفْرُ دانيال” تعتمده الكنيسة أَحد أَبرز أَسفار الكتاب المقدس/العهد القديم، و”نُبُوءة دانيال” تعتمدها نصوص إِسلامية في تفسيرها الكتابَ المقدس. إِذًا تقول بالكتاب الدياناتُ الإِبراهيمية الثلاثُ: يهوديًّا ومسيحيًا وإِسلاميًّا. لذا، لا عرقيًّا أَكتُبه ولا دينيًّا، بل من منطلق تشكيلي فني إِذ تناول قصةَ سوزانَّا عددٌ كبير من كبار الرسَّامين، معظمهم من عصر النهضة، عالجوا بريشاتهم المبدعة موضوع تلك الصبية التي افترى عليها شيخان قاضيان في المدينة (بابل) لأَنها رفضت الانصياع لمحاولتهما التحرُّش بها وهي تستحمّ. سوى أَن الفتى دانيال ظهَر وأَثبت ضلال ادعاءَاتهما الكاذبة، فأَنقذ الصبية من الموت.

توضيحًا مضمونَ لوحات فنية سأُعالجها في هذا المقال تباعًا على حلقات، أُورِد قصة تلك الصبية سوزانَّا كما وردَت (“سوسانة” أَو “سوسنة”) في سفر دانيال (الإِصحاح 13 بين الآيات 1 إِلى 64)، وأَختصرها عن الفرنسية:

سوزانَّا تستحمّ

كان في بابل وجيهٌ غنيٌّ اسمه يواكيم، تزوَّج الصبية التقية الجميلة سوزان ابنة حَلْقيا. وكان ليواكيم حديقة تحت داره يلتقي فيها يهودًا من المدينة. وصدف أَن اختير عامئذٍ من الشعب شيخان طاعنان تَصح فيهما قولة السيد: “يصدر في بابل إِثم من قضاة شيوخ يتوهَّم الجميع أَنهم مدبِّرو الشعب”. وكان ذانك يزوران دار يواكيم، ويَفْصلان في أَمر دعاوى الاختصام.

كانت سوزانَّا، بعد انصراف الشعب ظُهرًا من دارة زوجها، اعتادت أَن تتمشى في الحديقة، فلاحظها الشيخان واشتهاها سرًّا كلٌّ منهما ولم يبُح لرفيقه. حين انصرفا ذات ظهيرة وافترقا إِلى الغداء، فوجئا أَنَّ كلًّا منهما عاد إِلى سياج الحديقة، فتصارحا بِنِيَّتهما الشريرة، واتفقا على تَرَقُّب سوزانَّا في خلوة منفردة كي ينقضَّا عليها. وذات يوم شديد الحر، خرجت سوزانَّا إِلى الحديقة ومعها جاريتان صَرَفَتْما لتأْتياها بالدهون العطرة وتقفِلا البوابة كي تستحمّ. وفور خروجهما انقضَّ الشيخان على سوزانَّا مفاجِئَيْنَها بالقول: “الحديقة خالية إِلَّا من ثلاثتنا. والبوابة مغلقة، ونحن بك والهان، فأَطيعينا أَو نشهد أَنْ كان معكِ شاب تختلين به”. ذُهلَت الصبية وبادرتهما: “إِن أَطعتُكُما أَكون خاطئة، وإِن رفضتُ لن أُفْلِت منكما”. وصرخَت بصوت مذعور فهرعَ الخدَم إِليها ووجداها بين الشيخَين اللذين أَطلقا التهمة عليها فخجِلَ الخدم من فعْلةٍ لم يعهدُوها بسوزانَّا.

“الشيخان يداهمان سوزانَّا وهي تستحمّ” بريشة السير لِـــلِّــي (1655)

القاضيان اللئيمان

في اليوم التالي، وصلَ الشيخان إِلى دارة يواكيم الحاشدة بالجموع فقالا: “جيئُونا بهذه الخاطئة”، فدخلَت سوزانَّا محَجَّبةً ومعها والداها وأَقرباء وكانوا جميعًا حزينين متحسرين. تقدَّم الشيخان وحسَرا الحجاب عن وجهها واتَّهماها بأَنهما رَأَيَاها تُعانق شابًا في الحديقة، حين رآهما فرَّ من البوابة الخلفية. صدَّق الشعب رواية الشيخَين لأَنهما قاضيان فاضلان، وحَكَمَا عليها بالموت.

عندئذٍ رَفَعَت سوزانَّا وجهها مبتهلة: “أَيها الإِله الأَزلي، يا العالمُ بالخفايا، هذان الشيخان شَهِدا عليَّ زورًا ولم أَقترف ما يتَّهمانني به”. استجاب الإِله لابتهالها، وإِذ كانت تُساق إِلى الموت، نَبَّهَ الإِله روحًا نقيةً في فتى يدعى دانيال، فخرجَ من بين الجمع صارخًا: “أَتبرَّأُ من دمِ هذه المرأَة”. التفَت إِليه الجميع مستفسرين فأَجاب: “ما أَغباكم يا بني إِسرائيل، حكَمْتُم على هذه السيدة ولم تتحقَّقوا من كلام هذَين الشيخَين، وهما قاضيان اتَّهماها زُورًا”؟

فضيحة الشيخَين

ناداه أَحد أَعضاء مجلس الشيوخ: “تعالَ بيننا، إِن الإِله منحَكَ حكمة الشيوخ، فاحكُم بما ترى”. أَجاب دانيال: “فَلْيَفْتَرِقا كي أَحكُم بما أَرى”. وحين أَبعدَهُما الجمْع واحدهما عن الآخر، قال دانيال للأَول: “أَيها الشيخ الشرير، قل لي تحت أَيِّ شجرة رأَيت المرأَة مع فتاها”، فأَجاب ذاك: “تحت الجمَّيزة”.

ونادى على الآخر وقال له: “كنتَ ورفيقك تُغْويان بنات إِسرائيل فكُنَّ يتجَنَّبْنَكُما. وهذه بنت يهوذا ستفضح فُجُوركما. قل لي تحت أَيِّ شجرة رأَيت المرأَة والشاب، فأَجاب: “تحت السنديانة”.

قال دانيال: “كلاكُما كاذب. عقابُكما أَن يَقْطَعَكُما ملاكُ الإِله بسيفه ويُبيدَكُما”.

دانيال المنقذ

عندئذٍ كشف الحاضرون  كذبَ الشيخَين فصرخوا جميعًا: “ها إِن الإله استجاب رجاءَ مَن آمنَتْ به فأَنقَذَها”.

عملًا بشريعة موسى قتلوهما، وباركوا رجاءَ المرأَة وأَنقذوا دمَها النقي التقي الطاهر.

وسبَّح الربَّ أَيضًا حَلْقيا وزوجتُه على ظهور براءَة ابنتِهما، وسُرَّ زوجُها يواكيم أَن لم يَظْهر أَيُّ سلوك قبيح من زوجته الصبيَّة. ومذَّاك عَظُمَ دانيال في صفوف الشعب.

الحلقة المقبلة: “سُوزانَّا والشيخان” بريشة لورِنزو لوتُّو.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى