“الهروب” الكبير!

يخصُّ الدكتور جوزف جبرا الرئيس السابق للجامعة اللبنانية الأميركية في لبنان “أسواق العرب” بسلسلة من المقالات عن التعليم العالي والتحديات والمشاكل التي يواجهها في العالم، وخصوصًا في العالم العربي. ويبدأ هذه السلسلة بالتعليم العالي في الولايات المتحدة المؤثّر عالميًا.

جامعة أم آي تي: أهم جامعة في العالم للتخصّص في مجال التكنولوجيا

الدكتور جوزف جبرا*

يمرّ التعليم العالي الأميركي بتحوّلاتٍ كبيرة. في هذه العملية، فإن التحدّيات التي يواجهها القطاع الحيوي لهذا المجتمع غير مسبوقة. إذا لم يتمّ التعامل مع هذه التحدّيات بشكلٍ سريعٍ ومُناسِب، فإنها ستُحدِث أذىً في الأكاديميا الأميركية، وتُهدّدُ جودة التعليم العالي الأميركي، وتَحرُمُ الشباب الأميركي من فرصة أن يصبحوا مواطنين مُلتَزِمين، يرفضون الاستقطاب السياسي، ويُشاركون بنشاطٍ في تقدّم المجتمع والحضارة.

خمسُ ركائز أساسية جعلت الأكاديميا الأميركية ناجحة للغاية في تقديمِ فُرَصٍ تعليمية ووظيفِيّة مُمتازة للمواطنين الأميركيين والمواطنين الآخرين من جميع أنحاء العالم. لقد كان توسّعها الكبير في حدود المعرفة مُثيرًا للإعجاب ومُفيدًا للإنسانية بشكل عام. تتكوّن هذه الركائز من هيئةٍ طلّابية مُلتَزِمة بشدّة بالتعلّم؛ جسم تدريسي مُلتزم؛ فريق عملٍ مؤهّل لدعمِ كلٍّ من أعضاء هيئة التدريس والطلّاب في سعيهم نحو التميّز؛ إدارة ذات رؤية ومُلهِمة؛ ومجلس أمناء/ أوصياء يستحق الحُكمَ ومُصَمِّمٌ على توفير الموارد اللازمة للنجاح المؤسّسي. الوضع المثالي، بالطبع، هو أن تعمل هذه الركائز الخمس معًا من خلال نظامِ حَوكمةٍ فريدٍ والذي جعل التعليم العالي الأميركي مُمَيزًا وجذّابًا.

في ركن التعليم العالي هذا، سأُركّز بإيجاز على أعضاء هيئة التدريس بسبب التحديات الهائلة التي يواجهونها حاليًا في المؤسسات التعليمية في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

يجب أن أعترفَ بأن السببَ الذي دفعني شخصيًا إلى الالتحاق بالتعليم العالي هو تطلّعي لأن أُصبِحَ أستاذًا (بروفِسورًا)، وتكريس حياتي المهنية للتدريس وخدمة الطلاب والمساهمة في توسيع نطاق المنح الدراسية والعلم والمعرفة. كنتُ محظوظًا لأنني حقّقتُ حلمي وأصبحت أستاذًا ومديرًا ورئيسًا ناجحًا، حيث كانت هيئة التدريس دائمًا محور تفكيري. كنت أقول دائمًا لزملائي رؤساء الجامعات: “يمكنكم تجاهل هيئة التدريس على مسؤوليتكم الخاصة. إنها هيئة التدريس يا غبي … أيها الرؤساء الأذكياء!”

بعد تقاعدي من رئاسة الجامعة اللبنانية الأميركية، أصبحتُ مستشارًا أول في التعليم العالي مع ثلاثة مشاريع أُشارك فيها حاليًا. وفي هذه المشاريع الثلاثة، أُعطي اهتمامًا وثيقًا لمكان ودور هيئة التدريس في قيادة عملية التعليم والإضافة الخلّاقة إلى جسد المعرفة التي تُوجّه باستمرار تقدّم الحضارة في جميع جوانب المساعي الإنسانية.

أصبحتُ قَلِقًا للغاية عندما قرأتُ أخيرًا “وقائع التعليم العالي” (Chronicle of Higher Education) (حزيران/يونيو 2022) بعنوان مؤلم: “المُغادرة الكبرى” (The Big Quit). حتى الاساتذة المُثَبَّتون في الملاك التعليمي، او على خط التثبيت، يغادرون. أصبَحَت مخاوفي أكثر جدّية عندما قرأتُ أيضًا تقريرًا حديثًا “في داخل التعليم العالي” (Inside High Education) بعنوان “سمّها مُغادرة”  (Calling it Quits). كلما قرأتُ أكثر عن هذا الموضوع، أصبحتُ أكثر قلقًا، خصوصًا الآن، أكثر من أي وقت آخر، عندما تحتاج الجامعات والكليات إلى أستاذٍ مُلتَزِمٍ ومُندَفِعٍ ومُبتَكِر ومُبدِعٍ للتعامل مع تحدٍّ واحدٍ هائل ومستمر، تغيير مُتسارع، الذي يؤثّر في كل جانب من جوانب حياتنا، وبشكلٍ أكثر تحديدًا حياة الطلاب.

رُغمَ أنني كنتُ أعرِفُ أن بعضَ أعضاء هيئة التدريس في الماضي، لأسبابٍ متنوّعة، ترك الحياة الأكاديمية لمُتابعة فُرَصٍ أخرى، إلّا أن عدد أعضاء هيئة التدريس الذين يتركون الآن قد زاد بشكلٍ كبير، على الرغم من أننا ما زلنا لا نعرف العدد الدقيق. عندما نظرتُ في أسباب حدوث ذلك، أصبح واضحًا لي أنه يجب على مجالس الأمناء/ الأوصياء في جميع أنحاء الولايات المتحدة مُعالجة هذه المسألة الخطيرة على الفور قبل أن يصبح الضرر الذي لحق بالأكاديميا الأميركية غير قابلٍ للإصلاح.

خلال وبعد جائحة كوفيد-19، ذكر أعضاء هيئة التدريس، الذين يُغادرون مؤسّسات التعليم العالي الأميركية، العديد من الأسباب التي من أهمها الخسائر التي ألحقتها مهنة التعليم بحياتهم الخاصة. ذكر بعضهم بصراحة أن الضغط على عائلاتهم، خصوصًا أثناء الوباء، أصبح لا يُطاق وكان عليهم فعل شيء حيال ذلك.

بالنسبة إلى آخرين، أصبح الملل من العيش والعمل في المكان نفسه طوال حياتهم المهنية بأكملها، من دون حوافز حقيقية، أمرًا غير مقبول. “لقد فضّلوا اختيار التحوّل والتنقّل على الأمان والضمان”. بالنسبة إلى آخرين، فإن دعوتهم إلى القيام بالكثير والمطالبة بوظائف إدارية لمساعدة مؤسّساتهم ماليًا أخذهم بعيدًا من إثارة التدريس وفرحة التعليم، فقرّروا رفض هذا التغيير بشدة.

وهناك آخرون، وللأسف، يشكلون غالبية أولئك الذين غادروا الأكاديميا أو يخططون لمغادرتها، فقدوا أيَّ إحساسٍ بالهدف أو أي معنى لحياتهم الفكرية. أصبحت رؤيتهم للحياة المثالية للأستاذ، الذي ينقل المعرفة للطلاب المُتحمّسين والمتقبّلين في “مكانٍ مثالي”، خيبة أمل مؤسفة. لقد شعروا، وهو شعورٌ أكدته بالتأكيد جائحة كوفيد-19، بأنهم يواجهون موقفًا يقلب الطاولة عليهم بشكلٍ أو بآخر. بدأوا الشعور بالإرهاق وعدم الرضا الشخصي عن حياتهم الأكاديمية، ما دفعهم إلى خيارٍ واحدٍ مُتبقٍّ: الاستقالة. علاوة على ذلك، كان الشرطُ بأن يُقدّم بعض أعضاء هيئة التدريس، في مواجهة الوباء، فصولهم الدراسية تقريبًا، بدون وقتٍ للتحضير، يمثّل تحدّيًا فكريًا ومُرهِقًا جسديًا. حتى الطلاب بدأوا يلاحظون علامات الإجهاد الشديد والانفجارات العاطفية التي تؤثر في سلوك أساتذتهم في صالات التدريس. بدأ المزيد والمزيد من أعضاء هيئة التدريس يشعرون بأنهم لا يُقدَّرون ولا يُعطَون حقهم في الثقافة الأكاديمية التي أصبحت سامة بسبب التدخل السياسي، حتى في تشكيل المناهج الدراسية، والصلاحية السياسية، والحديث “المستيقظ”، وسياسة القناع، وقيود التنوّع. لقد شعروا أن الحرية الأكاديمية التي كانوا يتطلعون إليها في مهنة الأكاديميا قد تآكلت بشكلٍ كبير، وفُرِضَ عليهم عبءُ عملٍ متزايد باستمرار من قبل إدارةٍ ثقيلةٍ عُليا، وكانوا وحدهم يتحمّلون وطأة كل ذلك. للاستجابة لمحنة أعضاء هيئة التدريس، انتشرت مجموعاتٌ استشارية عديدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وتضخّم عدد أعضاء هيئة التدريس الذين يطلبون المشورة منها للوظائف خارج الأوساط الأكاديمية بشكل كبير. كما ورد في تقرير “في داخل التعليم العالي”، لخّص أحد أعضاء هيئة التدريس المعنيين الأمر: “لقد أصبح واضحًا لي أن مؤسّستي لم تحبّني، وفي أثناء ذلك، شعرتُ بعدم حبّي لها”. ونتيجة لذلك، خلص العديد من أعضاء هيئات التدريس إلى أن التعليم لا يستحق العناء الذي يبذلونه وبدأوا البحث عن وظيفةٍ أخرى خارج الأكاديميا.

ربما كان الأمر الأكثر إثارة للصدمة بالنسبة إلى كثيرين منهم هو اللامبالاة التي أظهرها عددٌ كبيرٌ من الطلّاب. كان من الصعب عليهم تحمّل ذلك، لأنهم شعروا أنه حكمٌ قاسٍ على قدرتهم على التواصل مع طلابهم وتقديم المشورة لهم وإلهامهم. علاوة على ذلك، فإن الرواتب المُنخفضة، والمخاطر الصحّية في صالات التدريس، والبيئة غير الآمنة، والانخفاض المتوقَّع في التسجيل المبكر، وقلّة الاهتمام من جانب الرؤساء ومجالس الأمناء/ الأوصياء لمعالجة الوضع، زادت من محنتهم ويأسهم. نتيجة لذلك، اختاروا البحث عن عمل خارج الأكاديميا، أو التقاعد تمامًا.

وفقًا لجوشوا دوليزا، كاتب مقال “الكرونيكل” (The Chronicle)، هناك شعورٌ بأن هناك إنكارًا بين قادة المؤسسات الذين يبدو أنهم لا يفعلون الكثير لمعالجة مُعدّل دوران أعضاء هيئة التدريس والانفصال.

في مقابل هذه الخلفية المتشائمة إلى حدٍّ ما بشأن “المغادرة الكبرى لهيئة التدريس”، وقلق الأستاذ، وحتى عدم اليقين، بشأن مستقبل التعليم العالي الأميركي، فمن المطمئن والامتنان أن غالبية أعضاء هيئة التدريس الأميركيين يواصلون الاستمتاع بحياتهم الأكاديمية على الرغم من التحديات الخطيرة التي تواجهها الأكاديميا الأميركية حاليًا. أولًا، يرون أن دورهم ضروري للتقدّم المستمر للحضارة والاكتشاف البشري. إنهم يشعرون بعمق أنهم بحاجة إلى التكيّف بمهارة، او بالأحرى توجيه التغيير المتسارع الذي يجتاح التعليم العالي الأميركي حاليًا. إنهم يريدون الاستمرار في خدمة الشباب الأميركي وإتاحة الفرصة لهم للحصول على تعليمٍ ممتاز، والبدء في الحلم، وتحقيق أعلى تطلعاتهم، وخدمة المجتمع والعالم بشكلٍ جيد. في الوقت الحالي، يواجه الحلم والديموقراطية الأميركيان أصعبَ تحدٍ وجودي. يمكن أن يساعد الإيمان بالهيئة التدريسية الأميركية واحترامها على تعويض كليهما!

ما سبق، يشكّل الأعراض، بل التحديات، التي يعاني منها أعضاء هيئة التدريس الأميركية وهي خطيرة، ويمكن اكتشافها أيضًا في مؤسسات التعليم العالي في جميع أنحاء العالم. لذلك، ومع كل الاحترام الواجب، أحثُّ السياسيين، والموظفين العموميين، ورجال الأعمال، ومجالس الأمناء/الأوصياء، وقيادة الجامعات في جميع أنحاء العالم على تزويد أعضاء هيئة التدريس ببيئةٍ أكاديمية أفضل، خالية من القيود أو التهديدات التي تتعرّض لها مهمتهم الأكاديمية المُقدّسة للتدريس، ورعاية الشباب والشابات، والاستمرار في توسيع حدود المعرفة. في عالمٍ مُعَولَم يواجهُ تحدّياتٍ هائلة، يجب علينا أن نُساهِمَ على الأقل في تعزيز رفاهية البشرية من خلال التعليم العالي السليم وزيادة المعرفة المثالية. هذا فرضٌ علينا جميعًا!

  • الدكتور جوزف جبرا هو أكاديمي لبناني مقيم في أميركا، والرئيس الفخري للجامعة اللبنانية الأميركية (LAU) في لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى