أَصداءُ حنين من “بيت طيور أَيلول”

هنري زغيب*

في الذكرى الستّين لصُدُور “طيور أَيلول” (1962) رائعة إِمِلي نصرالله (1931-2018)، لم يكُن أَفضلَ احتفاءً من كتاباتٍ حميمةٍ لابنتِها مُنى (طبيبة الغُدَد والسكَّري في مستشفى الجامعة الأَميركية) دوَّنَـتْها بالإِنكليزية على دفترها الشخصي في سويعات حنينٍ إِلى أُمها الغالية التي سطَعَت سحابة نصف قرن مُثْمر على جبين الأَدب اللبناني. ولم يكُن أَفضلَ من مبادرة رشا الأَمير أَن تَستلَّ أَربعةً من تلك النصوص فتُصدرَها بالأَناقة الموسومة بها دومًا “دار الجديد” كُتيِّبًا بالإِنكليزية عنوانُه “إِلى إِمِلي، أُمي”، تطرِّزه رسُوُمٌ من مَهى (شقيقة مُنى) كانت أَصدَرَتْها مع مقالات إِمِلي في مجلة “فيروز”.

الكتيِّب في حجم قُبْلة من 30 صفحة. على غلافه صورة إِمِلي صبيَّة (أَواخر الخمسينات أَيام تحريرها في مجلة “الصيَّاد”). افتتاحُه رسمُ وجهٍ فوق بيت، وختامُه زنبقتان من منى لأُمها: “ماما اشتقتلِّك… لا ندرك كَم يشعُّ النُور حتى ينطفئَ النور”، و”أَشتاقُ إِلى لطُفكِ فأَزداد لطافةً”.

نَزور عطر المقطوعات الأَربع.

الأُولى: “سعدى” وهي سعدى الطويل، رفيقةُ طفولة “ماما إِمِلي” وزميلتُها في مدرسة الكفَير الابتدائية. إمِلي كتبَتْ إِلى خالها فأَمَّن لها أَقساط دراستها حتى التخرُّج. سعدى لم تجد أَحدًا يساعدها فعاشت شبه أُمِّيَّة. زارتْها يومًا منى، جلسَت إِليها ساعتَين وغادرتْها لتعرف بعد 3 أَيام أَنها… توفيَت في غرفتها الفارغة إِلَّا من تخت عتيق وإِطلالة على جبل الشيخ. تكتُب منى في دفترها: “أَهكذا أَهل القُرى يموتون!… بهناءة… بهدوء… كأَنهم يطيرون!”.

الثانية: “الحلْم”، مقطوعة مستمَدَّة من قصة كتبَتْها “ماما إِمِلي” عن والدتها لُطفَة التي زارتْها ذاتَ حُلْم. تكتُب منى في دفترها: “زُرتِني، أُمَّاه، كما أُمُّكِ زارتْكِ يومَ عيد الأُمَّهات… معي أَنتِ طوال الوقت. إِنما حين ننام، وفي غفلة من الكَون، نفتح أَبوابنا السرِّيَّة كي تَدخل منها الأَرواحُ النقية”.

الثالثة: “ما الذي يبقى؟”، ذكريات البنت مع أُمِّها منذ طفولتها في أُويقاتٍ سعيدة. تكتُب منى في دفترها: “لا أَستطيع أَن أَلتقط جميع تلك الأُويقات إِنما أُمضي بقية حياتي في استذكارها. عداها وعدا كتابات ماما، ما الذي يبقى؟ عدا أَفعالها الخيِّرة وحُبٍّ كانت تنثره حولها، ما الذي يبقى؟ أُغمِضُ عينَيَّ وأَسترجع ما نفَثَتْ بنا من حُبٍّ هو الذي يُعانقُني مع روحها، فأَشعر أَنْ بلى: هذا هو الذي يبقى”.

الرابعة: “أَرى الدنيا من نُور عينيكِ”، كتبَتْها في الذكرى الثانية لغياب “ماما إِمِلي” وطيفها ما زال ينبض في قلب ابنتها. تكتُب منى في دفترها: “سنتان، وأَنتِ ماثلة في حاضري… من نُور عينيكِ أَرى الدنيا، وأَتفاعل معها كما أَتَصَوَّرُكِ قد تفعلين… أَقرأُ ثم أَقرأُ كتُبَكِ، يوميَّاتِكِ… أَتذكَّر كلماتِكِ وكلَّ ما كنتِ تُحبين أَن تروي… أَسمَع صُوَركِ بين يدَيّ… أُنصتُ إِلى عينيكِ فيها… أَسأَل مَن عرفوكِ أَن يحدِّثوني عمَّا عرفوا فيكِ كي أَنغمسَ في نبْضك أَكثر…. سنتان، والطيور تُهاجر غربًا في أَيلول وتَؤُوب في الربيع. قد تُغيِّر يومًا هذا المسار، لكنَّ رمزَه، في لقاء الحياة بصدْق مطْلَق، لم ولن يتغيَّر”.

طيِّبٌ هذا العطر الرباعيّ النصوص في أَرَجه الأَبيض. أَرجو أَن أَكون صُغتُ جيِّدًا بالعربية ما كتبَتْه منى بإِنكليزيتها العفوية في دفترها الحميم. فمع إِمِلي، كما عرفْتُها، لا يَصْدُق إِلَّا العفويّ، هي التي عاشت سنواتها في صدْق العفوية: كتَبَتْ، عقَدَتْ مع حبيبها فيليب حياةً هانئةً فأَنجَـبَتْ، وأَطلقَتْ كتُبًا وصداقات، وما زال عطرُ طيفها يَأْرج هناك، على تلك التلَّة النائية، وكلَّما طلَع الصباح على حرمون من خلف جبل الشيخ، يُلقي التحيةَ يوميًّا على الكفَير فتُجيبُه، بزنابقها الرَيَّا، أَصداءُ حنينٍ طالعةٌ نوستالجيًّا من “بيت طيور أَيلول”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى