استراتيجِيّةُ إسرائيل الجديدة تجاه إيران تُعَقِّدُ الأمن الإقليمي

على الرغم من كل الجهود التي تبذلها إسرائيل، فإن إيران الآن على وشك أن تصبح دولة ذات عتبة نووية. ولكن إلى أين سيؤدي ذلك؟

رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت: أطلق “عقيدة الأخطبوط” ضد إيران

جَودَت بَهجَت وعبد الرسول ديفسَلار*

يُمكنُ القول الآن أن المواجهة المستمرة منذ عقود بين إسرائيل وإيران أصبحت أكثر خطورة. لقد فشلت الضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية في منع إيران من أن تصبح دولة ذات عتبة نووية تقريبًا. لا تعترف الجمهورية الإسلامية بالدولة العبرية والأخيرة تعتبر الأولى تهديدًا وجوديًا. الآن، وسط عدم وجود إجماع بين القادة الإسرائيليين حول كيفية معالجة هذا التهديد الوجودي المُتَصَوَّر، فإن الدعوات لممارسة ضغطٍ أكبر تكتسبُ زخمًا. انخرط البلدان في حربِ ظِلٍّ لسنواتٍ شملت الاغتيالات والتخريب والخطف والعمليات الإلكترونية، لكن مرحلة جديدة من التوترات قد تُقرّبهما من صراعٍ واسع النطاق.

لعقود، أظهرت إسرائيل تصميمًا قويًا على استخدام الوسائل الديبلوماسية والعسكرية والسرّية لمنعِ أيٍّ من جيرانها من امتلاك قدرة أسلحة نووية. تماشيًا مع هذه السياسة، المعروفة ب”مبدأ بيغن”، قصفت إسرائيل المنشآت النووية العراقية في العام 1981 ومنشآت سوريا في العام 2007. وأراد رئيسا الوزراء السابقان إيهود باراك وبنيامين نتنياهو شنّ ضربات استباقية مُماثلة ضد المنشآت النووية الإيرانية في 2010-2012 لكنهما واجها معارضة شديدة من الموساد والجيش الإسرائيلي. كان الاقتراح محفوفًا بالمخاطر لأن الطائرات الإسرائيلية ستحتاج إلى السفر إلى مسافة أبعد بكثير مما كانت عليه الحال مع العراق أو سوريا، وستواجه فرصةً أقل بكثير للنجاح. كما تعلّمت طهران من الضربات الإسرائيلية السابقة: منشآتها النووية منتشرة، وطوّرت قدراتها للرد على هجوم إسرائيلي مُحتَمل. ونتيجة لذلك، ليس من الواضح ما إذا كانت هذه الضربة ستُحقّق أهداف عدم الانتشار. ومع ذلك، فإن الأمر المؤكد هو أنها ستكون مُكلفة ومُعقَّدة.

والجدير بالذكر أنه لا يوجد إجماعٌ بين كبار أعضاء المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية حول كيفية معالجة المخاوف بشأن إيران. لقد مارسَ القادة الإسرائيليون ضغوطًا مُكثّفة على الإدارة الأميركية والكونغرس في العام 2015 ضد خطة العمل الشاملة المشتركة. بعد انسحاب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي في العام 2018، انتقد رؤساء الموساد السابقون، تامير باردو وشابتاي شافيت وداني ياتوم وإفرايم هاليفي، هذه الخطوة، ووصفها باردو بأنها “خطأٌ استراتيجي”. واتخذ وزير الدفاع بيني غانتس ومسؤولون كبار آخرون موقفًا مختلفًا بشأن جهود الرئيس جو بايدن لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، بحجّة أن إسرائيل لا تعارض اتفاقًا نوويًا في حد ذاته، بل تُعارض اتفاقًا سيئًا. لقد دعوا إلى صفقة أطول وأقوى مع المزيد من العصي والجزر، بينما أصرّوا على أن إسرائيل لن تُجبَرَ على التعايش مع صفقةٍ تعتبرها غير قاسية بما فيه الكفاية.

واعترافًا بأن طهران أحرزت تقدّمًا كبيرًا في إنتاج اليورانيوم المُستخدَم في صنع الأسلحة، وسّعت إسرائيل حملتها ضد إيران في السنوات الأخيرة بهدف منعها من تطويرِ رأسٍ حربي نووي ونظامِ إيصال. كثّفت إسرائيل هجماتها على قواعد الصواريخ والطائرات المُسَيّرة الإيرانية وكذلك كبار القادة والمهندسين والعلماء العاملين في هذه البرامج. وتشكّل هذه الهجمات جُزءًا كبيرًا مما أسماه رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت “عقيدة الأخطبوط”، والتي تتضمن تكثيف العمليات السرّية على الأراضي الإيرانية، بدلًا من استهداف وكلاءٍ إقليميين في دول ثالثة.

لقد أدّت عمليات الاغتيال والهجمات والعمليات الإلكترونية إلى تعقيد وإبطاء تقدّم البرنامج النووي الإيراني. لكنها لم تُضعِف تصميم القادة الإيرانيين، وفي النهاية فشلت في وقف برامج طهران النووية والصاروخية. على الرغم من كل الجهود التي تبذلها إسرائيل، فإن إيران الآن على وشك أن تصبح دولةً ذات عتبة نووية.

إستراتيجية إسرائيل المتطورة

الاستراتيجية الإسرائيلية تتطوّر الآن في ضوءِ هذا الواقع الجديد. يتزايد احتمالُ انهيار خطة العمل الشاملة المشتركة أو تجميدها في المدى الطويل، وقد ينمو البرنامج النووي الإيراني أكثر، في حين أنه من غير المرجح حلّ المُضاعفات المُحتَملة من ضربةٍ عسكرية إسرائيلية على إيران في أي وقت قريب. وهكذا شعرت إسرائيل بالحاجة إلى مراجعة وتحديث استراتيجيتها لاحتواء إيران. في السنوات العديدة الماضية كان هناك تصوّرٌ متزايدٌ في إسرائيل بأن البرنامج النووي الإيراني لا يُمكن النظر إليه بمعزلٍ عن استراتيجية طهران العسكرية الأوسع. نتيجة لذلك، تُركّز إستراتيجية إسرائيل الآن على حشد الموارد الإقليمية لاحتواء برامج إيران العسكرية والنووية في وقتٍ واحد.

في حين أن الشراكة العربية-الإسرائيلية الكاملة ضد إيران لا تزال غير مُرَجَّحة في المدى القصير، فإن إسرائيل تعمل جاهدة لبناء إجماعٍ إقليمي أقوى والتزامٍ بالهدف المشترك المتمثّل في فحص ومراقبة قدرات طهران العسكرية. الدفاع الجوي والصاروخي، والأمن البحري، وقوات العمليات الخاصة كلّها مجالات يُمكنُ أن يُوَفِّرَ فيها تكامل الأصول العسكرية العربية والإسرائيلية والأميركية في المنطقة قدراتٍ جديدة لردع إيران. على الأخص بالنسبة إلى إسرائيل، فإن مشاريع التكامل الدفاعي هذه، حتى لو كانت النتائج متواضعة، ستساعد على احتواء ردٍّ انتقامي إيراني في حالة الضربات الإسرائيلية الوقائية المستقبلية على المنشآت النووية. بعبارةٍ أخرى، قد ينظر المسؤولون الإسرائيليون إلى التعاون الدفاعي الإقليمي كإحدى مراحل استعدادهم لضرب إيران. بالإضافة إلى ذلك، فإن تقريب الوجود العسكري الإسرائيلي من إيران سيعزز بشكل كبير جمع المعلومات الاستخبارية وقدرات الضربة داخل البلاد. في الأساس، استفادت إسرائيل بشكلٍ انتهازي من التنافس العربي-الإيراني لمتابعة التعاون العسكري التقني مع الشركاء الإقليميين.

وقد ساعد العديد من التطورات المترابطة على إعادة تشكيل المشهد الاستراتيجي الإقليمي لتسهيل هذه الاستراتيجية. أوّلًا، بعد مفاوضاتٍ طويلة، وقّعت الإمارات العربية المتحدة والبحرين اتفاقات تطبيع مع إسرائيل، عُرِفَت باتفاقات أبراهام، في آب (أغسطس) 2020. ثانيًا، أدّى عدم اليقين لدى بعض قادة دول الخليج بشأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنهم إلى خلق مساحة سياسية أكبر للتعاون الأمني ​​مع إسرائيل. ثالثًا، تَجَدُّدُ الاهتمام الأميركي بالمنطقة ورحلة الرئيس جو بايدن الأخيرة إلى إسرائيل والمملكة العربية السعودية نقلت التزام الولايات المتحدة بشراكة عسكرية عربية-إسرائيلية أقوى. تلعب القيادة المركزية الأميركية دورًا محوريًا في ضمان تنفيذ المهام التقنية والإجرائية التي تنطوي عليها أي خطة تكامل عسكري – هي طريقة أخرى تُبرِزُ فيها الولايات المتحدة التزاماتها تجاه شركائها. يجب أن يُنظَرَ إلى قرار الجيش الأميركي بنقل إسرائيل من منطقة مسؤولية القيادة الأوروبية الأميركية إلى منطقة القيادة المركزية الأميركية في أوائل العام 2021 على أنه مُيَسِّرٌ ومُسهّلٌ رئيس في هذا الصدد. في الوقت نفسه، سيساعد التكامل العسكري الأوثق على إبقاء الدول العربية في المدار الغربي وإدارة تحوّطها تجاه روسيا والصين.

في حين أن تطوير بنية نظام دفاع جوي وصاروخي متكامل لا يزال أمامه طريق طويل، فإن التعاون بين الدول العربية وإسرائيل على هذه الجبهة قد بدأ بالفعل. في حزيران (يونيو) 2022، قال وزير الدفاع غانتس للمشرّعين الإسرائيليين إن الدولة العبرية هي جُزءٌ من شراكة عسكرية إقليمية مع دول عربية تسمى “تحالف الدفاع الجوي للشرق الأوسط”. يعمل أعضاء هذه المبادرة الجديدة مع الولايات المتحدة ضد الصواريخ والقذائف والطائرات المسيّرة الإيرانية. وقد زَعَمَ غانتس أن التحالفَ قائمٌ وقد ردّ بالفعل على الهجمات الإيرانية المزعومة. قال مسؤول إسرائيلي إن الدول الشريكة تقوم بمُزامنة أنظمة الدفاع الجوي الخاصة بها من خلال الاتصالات الإلكترونية عن بعد، وليس من خلال مشاركة المنشآت. كما تُشير تقارير غير مؤكدة إلى أن إسرائيل نشرت أنظمة رادار في الإمارات والبحرين.

الردّ الإيراني

لكن إيران تعمل أيضًا على تطوير ردّها الخاص، مدفوعةً بمنطق “موازنة التهديد”. وكما تُوَضِّح الدراسات حول توتّرات 2011-2012 و2019 في مضيق هرمز، عندما تُدرك طهران أن هناك تهديدًا وجوديًا متزايدًا، فإنها تنأى بنفسها عن الاستجابات السياسية المحافظة وبدلًا من ذلك تتبنّى استراتيجية حافة الهاوية لإقناع الجانب الآخر بالتكاليف المُتبادَلة واستخراج المزيد من التنازلات. يُسيطرُ ميزان القوى على التفكير الاستراتيجي الإيراني. من وجهة نظر طهران، يمكن للتعاون العسكري العربي-الإسرائيلي أن يُغَيِّرَ الوضع الإقليمي الراهن والتوازن الدفاعي الهجومي القائم. مع وضع هذا في الاعتبار، قد تشكّل سياستان متداخلتان على الأقل استراتيجية ردّ إيران.

أوّلًا، قد تنظرُ طهران إلى برنامجها النووي على أنه وسيلةٌ لتحقيقِ التوازن. إن توسيع العلاقات العسكرية العربية-الإسرائيلية قد يُقنع القيادة في طهران بأن الإبقاء على برنامجها النووي على المستوى الحالي قد تكون له فوائد أمنية في المستقبل. إذا قَدَّرَت طهران أنه مع أو بدون الاتفاق، أن التعاون العسكري الإقليمي لمواجهة قدرات إيران سيزداد، فمن المرجح أن تستنتج أن إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة يمثل خطرًا أمنيًا أكبر. في هذه الحالة، قد تُقرّرُ طهران الإبقاء على خيار التصعيد النووي ردًّا على ذلك. وقد اتبعت ردود الفعل الإيرانية السابقة هذا المنطق، حيث ردّت طهران على الهجمات الإسرائيلية بزيادة حجم التخصيب وقدرتها.

ثانيًا، قد تختار طهران إظهار القوّة وتعزيز موقفها الرادع من خلال تقوية الوكلاء الإقليميين وتكثيف مساعدتها الأمنية لهم. ومن المفارقات، أنه مع تقارب العلاقات العسكرية التقنية بين الدول العربية وإسرائيل، فإن هذا لن يؤدّي إلّا إلى تعزيز الدور الحاسم للشبكات الشيعية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان في مواجهة الجبهة الجديدة. في حين أن المحادثات الجارية بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي يمكن أن تُقلّلَ التوترات السياسية إلى حدٍّ ما، نظرًا إلى غياب المحادثات الأمنية والعسكرية الملموسة بين إيران والدول العربية، فليس من الصعب التخيُّل أن طهران ستُقرّر الردّ بطُرُقٍ تقنيّة أيضًا. يتضمّن ذلك، على سبيل المثال، توفير أنظمة طائرات مُسَيَّرة أكثر قدرةً لوكلائها، وتوسيع نطاق المجموعات التي تتلقّى أصولًا متطورة، والبحث عن وكلاءٍ جدد. بعبارةٍ أخرى، قد تبدأ طهران أيضًا تدريجًا زيادة منصّاتها الهجومية في جميع أنحاء المنطقة حتى لا تتخلّف عن القدرات الدفاعية المتزايدة لخصومها.

الآفاق

إن العواقبَ المُحتَمَلة لديناميكيات التوازن والموازنة هذه على مستقبل الشرق الأوسط قاتمة. تزيد هذه الديناميكيات من تعقيد آفاق التوصّل إلى حلٍّ سياسي للقضايا الإقليمية الرئيسة – وهي نتيجة يمكن أن تؤثّر سلبًا في مستقبل جهود التطبيع بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي. يُمكن أن يُسهِمَ تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب في الأمن الإقليمي والاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي إذا ساعد على تعزيز الجهود الديبلوماسية لإنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي وتمهيد الطريق لحلِّ الدولتين. ولكن إذا تم النظر إلى التطبيع على أنه محاولة لخلقِ قدرةٍ عربية-إسرائيلية مشتركة لاحتواء إيران عسكريًا، فقد تنتهي العملية بمزيدٍ من زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط بأكمله.

تتمثّل الطريقة الأفضل في البحث عن طُرُقٍ لتهدئة التوتّرات المتزايدة بين إسرائيل وإيران، ودعم المحادثات الإيرانية مع السعودية والإمارات، وتشجيع الحوار الاستراتيجي الإقليمي، ولا سيما المحادثات الدفاعية السعودية-الإيرانية. إن الدفء الأخير في العلاقات بين أنقرة من جهة وإسرائيل والرياض وأبو ظبي من جهة أخرى هو تطوّرٌ مُرَحَّبٌ به. للمضي قُدُمًا، يجب على إدارة بايدن أن تسعى للبناء على هذا وأن تحثَّ القوى الشرق أوسطية الكبرى على بناء هيكلٍ أمني إقليمي شامل حيث يتمّ التعرّف على المخاوف الأمنية المشروعة لجميع اللاعبين ومعالجتها.

  • جَودَت بَهجَت هو أستاذ في جامعة الدفاع الوطني الأميركية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @GawdatBahgat. وعبد الرسول ديفسَلار هو باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط في واشنطن وأستاذ زائر في جامعة كاتوليكا في ميلانو. يمكن متابعته عبر تويتر على: @Divsallar. الآراء الواردة في هذه المقالة خاصة بهما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى