ريشاتهم تذهب إِلى عطلة الصيف

سِلْسْكي: “العائلة في عطلة” (1975)

هنري زغيب*

بعد مقالَيَّ السابقين “ريشاتُهم تنهمر المطر” و”ريشاتُهم تأْخذنا إِلى الصيف”، وما دمنا في قلب عطلة الصيف، هوذا مقال ثالث عن ريشاتهم حين تذهب إِلى عطلة الصيف. 

هل صحيح أَن الفنان الرسام يذهب في عطلة؟ وهل يمكن أَن يتخلَّى عن ريشته ويغادر محترفه كأَيّ موظف عاديّ يتخلَّى عن الأَوراق أَمامه ويغادر مكتبه ويستريح بعيدًا عنها وعنه؟ طبعًا لا… الرسام لا يكون رسامًا في أَوقات معينة ولا يعود رسامًا في أَوقات أُخرى… فهو مسكون بالريشة والخطوط والأَلوان في أَيّ لحظة من نهاراته ولياليه. حيثما يذهب لا تغادره ريشتُه ولا يفارقُه قلم الرسْم ودفتر الأَوراق البيض يستعجل عليها تخطيطاته تمهيدًا لإِكمال اللوحة لاحقًا في المحترف.

في هذا المقال اخترتُ لقراء “أَسواق العرب” ستة رسامين يتبيَّن، من خلال لوحاتهم، مزاجُهم في عطلة الصيف.

أَلميدا: “فتاة وكتاب” (1870)

 

عطلة عائلية

أَبدأُ مع الرسام الأُوكراني رومان سِلْسْكي (1903-1990) الذي بدأَ حياته التشكيلية بالجماليَا الانطباعية وواصلَها بمنحى قويّ صوب الواقعية فالسوريالية. وكان في مزاجه، منذ مطالعه، حبُّ الرحلات والسفر. فمنذ تخرُّجه من “أَكاديميا كراكوڤ للفنون الجميلة” (1922) أَخذ يتردَّد إِلى باريس حيث التقى الرسام التكعيبي فرنان ليجيه (1881-1955) ودرس فترةً عليه. وظهرَت في غير واحدة من لوحاته، عن الصيف عمومًا، أَجواءُ الهدوء في رحلة العطلة مع أُسرته، كما لوحته “العائلة في عطلة” (1975) وتبدو فيها سماء زرقاء ومناظر البحر والشاطئ وأَولاد يلعبون على رماله، والجميع يتنعمون بتلك الأَجواء.

لايستِر: “عازف العود” (1650)

عطلة مع الأَصدقاء

غالبًا ما وضع الرسامون لوحات عن أَجواء رحلة، أَو عطلة مع الأَصدقاء في أَمكنة مفتوحة أَو في حضن الطبيعة، تمجيدًا تلك الأَجواءَ الاجتماعية الهانئة وما فيها من استرخاء وحُبُور. من تلك الأَعمال الشهيرة في هذا الموضوع لوحة الرسام الفرنسي أُوغست رُنوار (1841-1919) “غداء الأَصدقاء”، وضعها سنة 1880 ولعلَّها أَشهر لوحاته على الإِطلاق. رسَمَ فيها نخبة من أَصدقائه في مطعم على ضفة نهر السين، بينهم آلين شاريغو (1859-1915) الصبية الجالسة إِلى يسار اللوحة وبين يديها كلب صغير، وهي حبيبته التي لاحقًا (1890) أَصبحت زوجتَه. ويبدو واقفًا خلفها أَلفونس فورنيز (ابن صاحب المطعم). وكان من مزاج رُنوار اللقاءُ بين الأَصدقاء. وهو وضع أَكثر من عمل للقاءاتهم، بينها اللوحة الانطباعية الشهيرة الأُخرى “حفلة راقصة لدى باحة طاحونة لا غاليت في مونمارتر” (1876) وفيها رسم عددًا من أَصدقائه بعد ظهر نهار الأَحد.

القراءة في العطلة

بعد أَجواء الخارج في حضن الطبيعة، يفضّل بعض الرسامين تمضية العطلة في أَجواء داخلية والاستمتاع بالقراءة، كما الرسام البرازيلي خوسيه أَلْميدا جونيور (1850-1899) في لوحتَيْه “فتاة وكتاب” (1870) و”فتاة تَقرأُ على شرفة المنزل” (1892) وسواهما من اللوحات التي، بأُسلوبه الانطباعي الواثق، التقطَ فيها تفاصيل بسيطة وصغيرة من الحياة اليومية، وهذا ما جعل له شهرة عالمية واسعة وهيَّأَه أَن يكون عضوًا بارزًا في “أَكاديميا البرازيل للفنون الجميلة” (تأَسسَت سنة 1816 في ريو دي جانيرو).

مانيه: “ولد ينفخ في كُرات الهواء” (1867)

العزف في العطلة

كثيرون يحبُّون الموسيقى، إِنما أَقلُّ منهم من يحبُّون العزف على آلة موسيقية. لذا وضعَ بعض الرسامين أَعمالًا لعازفين في فترة العطلة، كما فعلَت الرسامة الهولندية جوديت لايستِر (1609-1660) وهي من أَبرز أَعلام عصرها في القرن السابع عشر. وقامت شهرتها لا على رسم العزف وحسْب، بل في التعبير المميز على وجه العازف، وهو يلاعب أَصابعه على الأَوتار، كما في لوحتها “عازف العود” (1650).

الاهتمام بالمظهر في العطلة

بين أَعمال الفرنسي إِدوار مانيه (1832-1883) لوحات تناول فيها بعض أَسباب اللهو والاسترخاء في فترة العطلة، منها لوحة “سيّدة تَتَهَنْدَم أَمام المرآة” (1877)، ولوحة “ولد ينفخ في كُرات الهواء” (1867)، وكان ذلك بعضًا من براعته أَن يلتقط لحظات بسيطة عادية يومية قلَّما تنبَّهَ لها سواه، فيصوغ منها لحظات حية جديرة بكبرى اللوحات الخالدة.

مونيه: “جسرُ حديقتي فوق زنابق الماء” (1899)

عطلتي الدائمة: حديقتي

نادرًا ما تعلَّق رسام بحديقته مثلما تعلَّق بها رائدُ الانطباعية الفرنسيُّ كلود مونيه (1840-1926). فهو منذ يفاعته لم يحتمل صخب الحياة في المدينة. لكنه اصطبر عليها حتى بات بإِمكانه الرحيل عنها، فاستأْجر سنة 1883 بيتًا ذا حديقة في جيڤرني (من مقاطعة النورماندي على الضفة اليُمنى من نهر السين، 80 كلم غربي باريس) ثم تيسَّرت أَوضاعه المادية فاشتراه سنة 1890،  ووسَّع حديقته فأَنشأَ فيها جسرًا خشبيًّا فوق أَزهارها المتنوعة (وخصوصًا زنابق الماء( وجعلَها عالَمه الأَحَبّ، وراح يُمضي فيها معظم أَوقاته حتى قال يومًا: “حديقتي أَجمل لوحة حقَّقتُها في حياتي”. وفيها تنامى حبُّه الطبيعةَ مهْدَ أَعماله الانطباعية التي كرسته سيّد هذه المدرسة الفنية في فرنسا. وبلغ من تعلُّقه بحديقته وأَزهارها المتعدِّدة الأَنواع والأَلوان أَن وضَع لها لوحات كثيرة في فترات متعدِّدة وأَوقات مخنلفة، ممضيًا فيها عطلته الدائمة، قائلًا يومًا إِن “الأَزهار نبع فياض للفنان، لا تنضب ريشته من رسمها في أَشكالها الجميلة ومظاهرها الساحرة”.

وتكريمًا هذه الحديقةَ وتعلُّقَ الفنان بها، حين توفي مونيه وكان إِلى سريره صديقه الأَقرب رئيس الوزراء جورج كليمنصو، سرعان ما حوَّل البيت والحديقة إِلى مكان عام تحوَّل متحفًا في ما بعد.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى