رُغمَ بُلوغه الستّين، لا يزالُ النظامُ الجزائري المُتَرَهِّلُ مُتَمَسِّكًا بالسلطة

إحتفلت الجزائر أخيرًا بالذكرى الستّين لاستقلالها عن فرنسا، ورُغمَ هَرَمِ وتَرَهُّلِ نظامها، لا يبدو في الأفق أن تغييرًا سيطرأ قريبًا في البلاد. 

الرئيس عبد المجيد تبون: واجهة لحكم العسكر.

سلامة عبد الرحمن*

احتفلت الجزائر في 5 تموز (يوليو) بالذكرى الستين لاستقلالها باستعراضٍ عسكريٍّ في العاصمة، شاركت فيه الدبابات والمروحيات وقاذفات الصواريخ، التي تحرّكت على طول الطرق التي اصطفّ على جانبيها العَلَمُ الوطني. كان الهدف من الحدث الاحتفال بيومٍ محوري في العام 1962، عندما هزمت البلاد رسميًا الحكم الاستعماري الفرنسي بعد خوضِ حربِ تحريرٍ وحشية استمرت ثماني سنوات. لكن بالنسبة إلى الكثيرين، كانت رؤية استعراض المعدّات العسكرية في جميع أنحاء العاصمة في ذلك اليوم الصيفي المُشمِس بمثابةِ تذكيرٍ بكلِّ ما حدثَ من أخطاءٍ منذ الاستقلال.

وبحسب مراد أوشيشي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بجاية، لقد تمَّ تصميمُ العرض للاستهلاك الدولي والمحلي. فمن ناحية، كان يهدف إلى تصوير الجزائر كقوة إقليمية. لكن السلطة أرادت أيضًا الإظهار بأن الجيش والشعب معًا ككيانٍ واحد، وهذه مغالطة. “أعتقد أن العديد من الجزائريين نظروا إليها على أنها مَزحة، بدلًا من [رؤية] الجدّية والأبّهة التي أراد الجيش إظهارهما”.

في الواقع، يأتي الاحتفال العسكري في وقتٍ يَسودُ استياءٌ كبير لدى الجزائريين. بعد ستّةِ عقودٍ من التحرير، قوبلت غالبية التوقّعات التي سيجلبها الاستقلال للجزائر –الحرية والازدهار والمساواة– بخيبة أمل. لا يزال الجيش في السلطة، ويُديرُ نظامًا استبداديًا عجوزًا ومُترَهِّلًا تستفيدُ منه بشكلٍ أساسي مجموعةٌ صغيرة من النُخَبِ السياسية، على حسابِ الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية للجزائر.

شكّلت حركة “الحراك” الاحتجاجية في العام 2019 أكبر تهديدٍ لهذا النظام القائم منذ عقود، ما دفع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الاستقالة. لكن الآن، تبدو قبضة الجيش على السلطة أقوى مما كانت عليه منذ سنوات، والقيود المفروضة على الحرّيات يتمّ فرضها بشكلٍ متزايد. نتيجة لذلك، يتصاعد السخط الشعبي مرة أخرى في جميع أنحاء البلاد.

لقد وصل التضخّم إلى رقمَين، وأدى الافتقار إلى الاستثمار في البنية التحتية للمياه، إلى جانب الجفاف، مرارًا وتكرارًا إلى تقنين المياه في بعض المدن الرئيسة والمناطق الريفية. ارتفعت معدلات البطالة خلال السنوات الأخيرة، وتفاقمت بسبب تأثير جائحة كوفيد-19 على الشركات والسياسات الاقتصادية الخاطئة اللاحقة للحكومة. والشباب الجزائري –أكبر فئة في البلاد، 70٪ من السكان دون سن الثلاثين– يكافحون في المشهد الثقافي والاجتماعي القاحل في البلاد وسط نقصِ الفُرص، بدون أي أمل في مستقبل أفضل. هذا هو السبب في أن الكثيرين يواصلون المخاطرة بحياتهم في محاولةٍ لعبور البحر الأبيض المتوسط ​​إلى أوروبا.

الدولة الجزائرية الحديثة في جوهرها هي نتاجُ ما يُمكن تسميته “تأميم” الاستعمار. في بدايتها، تمتعت الجزائر المستقلة حديثًا في الواقع بنفوذٍ وتأثيرٍ سياسي هائلَين. تمت دراسة ثورتها ومحاكاتها من قبل حركات الاستقلال في جميع أنحاء العالم. كواحدة من قادة حركة عدم الانحياز –مجموعة دول ما بعد الاستعمار التي سعت إلى مساراتها المحايدة خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي– استضافت الجزائر ثوارًا ومقاتلين من أجل الحرية من جميع أنحاء العالم، حتى أنها أقامت معسكرات لتدريب مواطني جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري.

لكن تلك الصورة أخفت حقيقة أنه بعد وقتٍ قصيرٍ من طرد الاستعمار الفرنسي، تم الاستيلاء على السلطة –وفي النهاية إدارة الموارد الهيدروكربونية الهائلة للبلاد– من قبل مجموعة محلية من الجنرالات وأعضاء الحزب الواحد وعملاء المخابرات. فرضت هذه النخبة السياسية العسكرية، المُنقسمة بين عشائر سياسية مُتعارضة ولكنها أوليغارشية الحكم، عقودًا من الاستبداد وسوء الإدارة الاقتصادية.

اليوم، تضرّرت مصداقية الجزائر الدولية. على الرغم من أنها أكبرُ دولةٍ في إفريقيا من حيث المساحة ومَصدَرٌ رئيس للمواد الهيدروكربونية إلى أوروبا، إلّا أنها غالبًا ما تختار موقفًا بعيدًا من الديبلوماسية ولا تزال غير واثقة ومتشكّكة من التعاون الدولي المُفرط. ولا يزال يديرها نظامٌ رجعي يتحدث باستمرار عن مؤامرات خارجية من أجل إبقاء الجيش في مركز السلطة. على عكس العديد من دول ما بعد الاستعمار الأخرى، فإن الجزائر لم تشهد بعد تغييرًا في الأجيال أو تطورًا في القيادة، مع استمرار الجنرالات في الحكم وراء القشرة الرقيقة للحكم الديموقراطي الذي توفره الرئاسة.

وبينما يدّعي النظام الحاكم زورًا شرعيته من الماضي، فقد فشل باستمرار في تقديم إجابات عن مشاكل الحاضر. بعد النجاح الأوَّلي لحركة “الحراك” في طرد بوتفليقة من منصبه، أجرى الجيش انتخاباتٍ كان فيها جميع المرشحين تقريبًا على صلة بحكم بوتفليقة، الأمر الذي دفع متظاهري الحراك إلى المطالبة بالمقاطعة. الرئيس الجديد، عبد المجيد تبون –الذي شغل مناصب وزارية عدة في عهد بوتفليقة، تُوِّجَت بتعيينه رئيسًا للوزراء في العام 2017– تم انتخابه في نهاية المطاف في كانون الأول (ديسمبر) 2019 في تصويت شهد إقبالًا مُنخفضًا تاريخيًا.

حاولت حكومة تبون إلى حدٍّ كبير إعطاء الانطباع بأنها تسعى إلى الإصلاح، دون تغيير الكثير في الطريقة التي تُدار بها البلاد أصلًا. على سبيل المثال، في العام 2020، لاحق النظام القضائي سياسيين مرتبطين بالحرس القديم في قضايا فساد بارزة. لكن في الوقت نفسه، استهدفت الحكومة متظاهري الحراك باعتقالهم واستخدمت جائحة فيروس كورونا كذريعة لتمرير قوانين جديدة تزيد من تقييد حرية التعبير والتجمّع.

حتى يومنا هذا، وفقًا لأوتشيشي، لا يمكن تنظيم مؤتمر أو اجتماع بدون إذن. وأضاف: “تم الاحتفاظ بالإجراءات التي تم وضعها لمكافحة كوفيد -19 للأحداث السياسية والثقافية كآلية لمنع أي تنظيم لقوى المعارضة”.

لا يزال ما يصل إلى 266 سجينًا سياسيًا مُرتَبطين بحركة الاحتجاج لعام 2019 في السجن، وفقًا لمنظمة العفو الدولية في الجزائر. حتى عندما أصدر تبون عفوًا رئاسيًا عن بعض المعتقلين السياسيين في وقت سابق من هذا الشهر، استمر نظامه في اعتقال نشطاءٍ جددٍ ومُنتقدي الحكومة. وقد اتُّهِمَ بعضهم بـ “استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لأغراضٍ تخريبية”، بينما قضى آخرون وقتًا في السجن بسبب أعمالٍ حميدة مثل “المشاركة في تجمّعات”.

وفي الوقت نفسه، أفادت الأحداث الخارجية النُخب السياسية الراسخة في البلاد. أدّى الغزو الروسي لأوكرانيا في وقت سابق من هذا العام والارتفاع اللاحق في أسعار الطاقة إلى تحسين قدرة الجزائر على المساومة مع أوروبا حيث تسعى الأخيرة إلى تقليل اعتمادها على الغاز الروسي.

تتوقع شركة الطاقة المملوكة للدولة سوناطراك أن تكسب الجزائر 50 مليار دولار من تصدير الهيدروكربونات هذا العام، مقارنةً بـ35.4 مليار دولار في العام 2021 و20 مليار دولار في العام 2020. بعد سنواتٍ من عجز الحساب المالي والجاري المشترك بعد الانهيار التاريخي في أسعار النفط في العام 2014، جنى النظام الجزائري مكاسب مالية من ارتفاع أسعار المحروقات، مما خفّف إلى حدٍّ ما مخاوف الجنرالات بشأن مستقبلهم.

ومع ذلك، هناك فرصة ضئيلة في أن يؤدّي أيٌّ من هذه الأموال الجديدة إلى تحسين حياة معظم الجزائريين حقًا. في حين أن الحكومة بدأت بالفعل توزيع إعانات البطالة الجديدة في آذار (مارس) 2022، فإنه لم يتم تنفيذ أي تدابير حقيقية لخفض تكلفة المعيشة.

هذا نمطٌ تكرّر في الجزائر مرات ومرات. في دورة النفط الفائقة السابقة حتى العام 2014، على سبيل المثال، استخدمت السلطات بعض الإيرادات المتزايدة لبناء البنية التحتية للنقل، بينما لم تفعل سوى القليل لتغيير طبيعة الاقتصاد بشكل أساسي. على الرغم من أن الحكومة تتحدث عن التنويع الاقتصادي، فإن الحماية المالية التي يبنيها النظام مرة أخرى سيتم توجيهها في الغالب للحفاظ على شبكات المحسوبية وتهدئة الغضب الشعبي لإبعاد أي تهديدات للنظام.

على الرغم من تصوير التماسك والتضامن للاحتفال بمرور 60 عامًا على استقلال البلاد، فمن غير المرجح أن يتشتت انتباه الجزائريين –المُثقلين بشكل متزايد بثمن الضروريات الأساسية والمخنوقين تحت وطأة القمع المتزايد– بسبب المعدات العسكرية اللامعة أو الهتافات الوطنية لفترة أطول.

  • سلامة عبد الرحمن هو مراسل “أسواق العرب” في الجزائر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى