مَن لهُ أُذْنان سامعتان… فَلْيَرَ

هنري زغيب*

تتكاثرُ في العالم أَخبارُ حكَّام سُلطويين غالبًا ما يَنتهُون تْشَاوْشِسْكُوِيًّا أَو سْريلَنكيًّا، حين ينفجر الشعب غضبًا على الحاكم الطاغية فينفِّذُ غضبَه باغتيال الحاكم السُلطوي أَو بنَفْي الحاكم المتسلِّط.

غضبُ الشعب قد يطول حتى ينفجر. لكنَّ ختام القهر أَن يجرُفَ الشعبُ المعوِّقات، كما حصل في أَكثرَ من دولة في العالم انفصَل حاكمُها عن الشعب وراح يتحكَّم بطغيانٍ وصلَفٍ ويترك يلده ينهار، فاجتاحتْه الجماهير حتى انتهى جثةً أَو منفيًّا.

قبلذاك، يكون الحاكمُ المتسلِّط يتحكَّم بالسلطة، معتمدًا سياسة التفريق بين أَجنحة المجتمع، انطلاقًا من المبدإِ الدكتاتوري: “فَرِّقْ واحْكُم”. ويوغلُ أَكثرَ في الصلَف فيشجِّع فقدان الثقة بين المواطنين حتى يخوِّنَ بعضُهم بعضًا.

في النظام الديموقراطي يكون العكس: تسُود الثقة بين المواطنين فيثقُ الجناحُ (أ) بالجناح الآخر (ب) ولو كان (ب) خصمًا سياسيًّا ولا يتَّفق مع الخط السياسي للجناح الأَول (أ). قد ينتقد الجناح (أ) سياسيّي الجناح (ب) وينعتُهم بأَبشع الصفات، لكنه لا يراهم أَبالسةً يُشيطنون البلاد ويُضْمرون له شرًّا. وإِذا فاز الجناح (ب) في الانتخابات يتقبَّل الجناح (أ) النتيجة احترامًا أَن الأَكثريةَ الفائزةَ تحكُم والأَقليةَ الخاسرة تعارض.

خارجَ الديموقراطية، يَعتبر الجناح الخاسر (أ) أَن الجناح الفائز (ب) ليس خصمَه السياسي بل عدوُّه، فيقوم بأَيِّ تصرُّف شرعي أَو غيرِ شرعي ليطعن بالنتيجة، وقد يُشعلها حربًا أَهلية بتشجيع من الحاكم المتسلِّط الذي يَهُمُّه التفريق والاقتتال في صفوف المواطنين. الدكتاتور لا تَهُمُّه ثقة المواطنين به بل يَهُمُّهُ أَن يخشى الشعبُ بعضُه بعضًا، ويكرهَ بعضُه بعضًا، ويتوجَّسَ كلُّ فريقٍ من الآخَر، حتى لا يعودَ ممكنًا أَن يتوحَّدَ الشعب ليُسقِطَ الدكتاتور أَو يطرُدَه أَو يغتالَه.

الدِكتاتورية عشبةٌ بَريَّةٌ سامَّةٌ تنمو شوكيًّا بلا عناية، بينما الديموقراطية زهرةٌ جميلةٌ تَلزمُها عنايةٌ خاصةٌ لتنمو، وشروطٌ معيَّنة أَولُها الثقة بين المواطنين في المجتمع الواحد. وهو ما لا يتَّبعه الحاكم المتسلّط، إِذ يرى انهيار الاقتصاد والمؤَسسات ولا يبادر إِلى إِنقاذ، بل يراقب خلافات المواطنين في ما بينهم، وعوض أَن يحاول تضميدَ الجراح وتخفيفَ الكُره المتبادَل، يغرِز إِصبعه في الجراح لتعميقِها وتأْجيجِ الخلافات وإِشعالِ الفتَن حتى يزدادَ فقدانُ الثقة والتباعُد بين المواطنين، فيتدخَّلَ عندئذٍ لا كحاكمٍ حَكَم بل كزعيمٍ فئوي، إِذ لا تعود البلادُ مجتمَعًا واحدًا بل قبائلَ متنافرة، ويتصرَّف الحاكم كرئيس قبيلة يستقوي بها لكسْر القبائل الأُخرى، ولا يعود زعيمًا قويًّا على بلاده المتهالكة في الفقْر والذُلّ بل على فريقه الخاص، فيَنْهار المجتمع المتفكِّك، وتشتعل الثورات والفتن، وينزِل الشعب إِلى الشوارع والساحات، ويكونُ هياجٌ شعبي هائلٌ منفلتٌ من كلِّ ضبْطٍ وارتداع، ويتكرَّر الفِرار على صورة رئيس سْريلنكا، أَو الحُكْم الميداني بالإِعدام على صورة تْشَاوْشِسْكو، أَو العزل الشعبي على صورة البريطاني بوريس جونسون.

هذه هي مسيرةُ كلِّ حاكمٍ متحكِّمٍ عنيدٍ يدَّعي القوةَ الشعبية. وتلك نهايته بعد تَـجَبُّره وصلَفِه وتَـحَكُّمِه.

ومَن له أُذُنان سامعتان… فَلْيَرَ.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى