أَول صدمة فنية في حياة جبران: احتراقُ لوحاته (2 من 2)

جبران في الحادية والعشرين عند إِقامة المعرض

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذا المقال، ذكرتُ أَن جبران خليل جبران ما زال يُثير نقاشًا ويُسيل حبرًا، ولو بعد 91 عامًا على وفاته (10 نيسان/أَبريل 1931). ومن أَحدثِ ما يُثير: مقال قديم عمرُه 118 سنة من جريدة في بوسطن عن أَول معرض له سنة 1904، رمَّدَتْه النار بكامله إِذ انفجر حريقٌ كبيرٌ اجتاح المبنى الذي كان فيه محترف فْرِدْ هولاند داي عارضًا أَعمال جبران.

كنتُ مهَّدتُ لظروف ذاك المقال، وأَتناولُه هنا في هذا الجزء الثاني الأَخير، وفيه نعرف ما كانت الأَعمال الجبرانية التي دمّرتْها النار. ولولا هذا المقال لَما كنا عرفنا مضمون أَول معرض في حياة جبران.

الدعوة إِلى المعرض قبل احتراقه

ماذا في المقال؟

المقال صدر في جريدة “بوسطن پوست” عدد الأَحد 27 آذار/مارس، كتبَه أُستاذ الفنون في جامعة هارڤرد الناقد تشارلز إِليوت تورتِن (1827-1908) بعنوان: “فنانٌ عربيٌّ شاب في بوسطن – رسومُه الجميلة مثَارُ اندهاش”، امتدَّ نصُّهُ على صفحة كاملة من الجريدة، مع سبعة رسوم من جبران، وصورة جبران الفتى.

هنا أَبرز ما جاء في نقْده لوحات جبران بأَسمائها:

  • “سيّدتي”: هي أَقرب ما تكون من أَجواء لوحة “الموناليزا” التي ما زالت بسمتها تُحيّر الأَجيال لإِدراك سرّها.
  • “الآنسَة المباركة”: تشير إِلى شفافية الرسام الذي وضع هذه اللوحة حَدَّ لوحة “سيّدتي”، وفيها تظهر براعته في مشحات النور فوق رأْسها، إِنما أَيضًا في العلاقة الناصعة بين الرسام والمرأَة الظاهرة في اللوحة.
  • “تاجُ الموت غيمةٌ صغيرة”: رجل ينحني أَمام هيكل عظميّ في الصحراء. والهيكل العظمي رمزُ الموت كهاجس دائم.
    فْرِدْ هولنْد داي راعي جبران وصاحبُ المحترف المحروق

هاجس الإِنسانية

  • “حين الإِنسانية كانت نائمة في ظل الموت، ظهر المسيح”: فيها فكرة أَنَّ المسيح الكوني، مسيحَ العالم، هو الناطق في فم بوذا ومحمد وكونفوشيوس وكالي (إِلهة الموت والزمن في الميثولوجيا الهندية).
  • “الأَرض تأْخذ حصتها والجنة تأْخذ حصتها”: وهي تذكِّر بمقولة “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. ويظهر في اللوحة رجالٌ فاسدون منبطحون أَرضًا، فيما تطلع من الطين الروحُ الخالدة، وكانت خفية عن أَيِّ رسام آخر.
  • “النور والعتمة”: ملاكان واقفان يرمزان إِلى ذينِكَ الضدَّين في الحياة.
  • “حلم الحياة”: وُجُوه يرمز الرسام فيها إِلى الصبا والجمال والمعرفة والتجربة والحب. المرأَة الشابة ترمز إِلى الجمال، والشاب يرمز إِلى الصبا والقوة، ثم يشيخ بالمعرفة والتجربة، وفي خلفية الصورة عشاق يتهامسون.
  • “زوجة لوط”: صورة امرأَة تبدو بوضوحٍ أَنها تحوَّلت عمُود ملح، وتبدو ملامحها مهشَّمةً بذاك الملح.

هاجس الحكمة

  • “هُبُوط الحكمة إِلى الهند”: فكرتُها أَن المعرفة انطلقَت من الشرق. وفي اللوحة وجوه من الهند واليونان ومصر وروما. من الغيوم تهبط الحكمة بصورة مينرڤا (لليونان وروما)، وبصورة إِيزيس (لمصر)، وبصورة كالي (للهند). وفي الأَسفل يدٌ تحمل الكرة الأَرضية رمز المعرفة في الفلسفة السنسكريتية، وحولها الكلمات التي تشتمل عليها كلُّ فلسفة: الحب، السعادة، الغفران، الحقيقة.
  • “العتمة”: وهي في صورة امرأَة عابسة تضُمُّ كفيها إِلى صدرها.
    الكتاب الجامع محاضرات مؤْتمر جبران (مركز التراث اللبناني في LAU)

هاجس الموت

  • “وَلَدُ البؤْس”: فيها صورة امرأَة مفجوعة حيال مصيبة أَفدح من الموت، تحضن طفلًا بين ذراعيها. في أَسفل الصورة امرأَةٌ مغلَّلة على صخرة الحياة.
  • “الروح بين الخير والشر”: فيها صورة امرأَة تضع كفَّها على رأْس صبية يقف وراءَها رجل يتفرَّس بها في نظرة شر.
  • “رؤْيا آدم وحواء”: فيها صورة رجل وامرأَة وسْط “حديقة جنة عدن”، وملاك حامل سيفًا من نار يطرُدهُما من الجنة، ويبدو من بين الدخان مريم والمسيح. هذه اللوحة هي الوحيدة التي نجَت من الحريق، ولا تزال اليوم في متحف أَكاديميا تلفير (مدينة ساڤانا في ولاية جورجيا) بين مجموعة الأَعمال الجبرانية التي كانت لدى ماري هاسكل، وقبل التجائها إِلى بيت العَجَزة أَهدتْها إِلى المتحف.

ملامح جبران الفتى الواعد

أَهمية هذا المقال أَنه يعطي تفاصيل دقيقة عن ملامح ذاك الرسام الشاب الواعد في بوسطن، وعن محترفه الصغير في المبنى رقم 35 من شارع إِدينْبورو. جاء في تلك التفاصيل: “عيناه واسعتان، زيتونيُّ البشَرة، أَسود الشعر، وُلِد بين أَشجار أَرز لبنان. هو ابن شيخ عربي، تلقّى تربيته بين حكمة الشرق القديمة والتنشئة المسيحية في الغرب الحديث، وهي ظاهرة تتجلَّى خصوصًا في بيروت. يَرسم بأَبسط أَنواع الأقلام، في مساحات تتهادى بين الأَبيض والأَسوَد، ورُسُومُهُ ذاتُ نقاوة لافتة وصفاء ساطع وخيال بعيد. ومن يَدلف إِلى شارع إدينبورو يجد زقاقًا ضيّقًا تفوح منه الروائح، وأَولادًا جالسين على عتبات بيوتهم. وإِذا اهتدى الزائر إِلى بيت جبران يفاجَأُ ويندهش: درَج ضيق يؤَدِّي إِلى غرفة ضيِّقة عارية من كل ما يحويه عادةً محترفُ رسام، إِنما فيه جَوٌّ يذكِّر بأَيامِ كان الرسامون يعملون لصالح الإِنسانية. في الغرفة كتُب مكدَّسة في صندوق صغير، قد يكون أَهداها إِليه مَن وجدوا فيه عبقريًا استثنائيًّا واعدًا. بينها مؤَلفات ماترلنك ودانتِه وبترارك وسائر الحالمين القدامى ببشرية سعيدة. وعلى قدْرما أَتاح لي تفسيرُه لي بإِنكليزيَّته الضعيفة، يبدو أَنه مهتم في هذه الحقبة بقراءة كتب عن الموت والآلهة وروح الإِنسان”.

المصدر اليتيم

هكذا يكون هذا المقال هو المصدر الوحيد الذي يُطْلعنا على أَعمال أَول معرض لجبران في حياته، وأَول صدمة كبيرة تلقَّاها، لكنه بالمقابل كان الفرصةَ لأَول لقاء له مع المرأَة التي غيَّرت مجرى حياته كلَّها: ماري هاسكل.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى