أَول صدمة فنية في حياة جبران: احتراقُ لوحاته (1 من 2)

رجالُ الإِطفاء يعالجون حريق المبنى (عن جريدة “بوسطن بوست”)

هنري زغيب*

ما زال جبران خليل جبران يُثير نقاشًا ويُسيل حبرًا، هو الذي مات ذات يوم (10 نيسان/أَبريل 1931) وما زال يولد كل يوم في اكتشاف نص له جديد، أَو رسالة منه غير منشورة، أَو طبعة جديدة لكتبه، أَو صدور ترجمة جديدة لأَحد مؤلفاته. وهذا ما يجعله خالدًا عصرًا بعد عصر، لكأَنه ما زال حيًّا ناشطًا بيننا، نابضًا بحضوره وكتاباته ورؤْيته ورؤْياه.

وبالفعل: ها نحن اليوم أَمام كشْف جديد من سيرته الفنية: إِتلاف جميع أَعماله، رُسُومًا ولوحاتٍ، في حريق مرعب انفجر في المبنى الذي كانت معلَّقةً فيه، لدى داخلَ محنرَف راعيه الأَول ومرشده الأَدبي المصوِّر الفوتوغرافي فْرِدْ هولنْد داي، الناشر الذي تلقَّف جبران في مطلع صباه، وآمن بموهبته، وطلَب منه وضعَ رسومٍ لأَغلفة الكتُب التي ينشرها في داره. وحين تهَيَّأَت لدى الفتى جبران (21 سنة) مجموعةُ رسوم ولوحات، عمد هولنْد داي إِلى فتْح محترفه معرضًا خاصًّا لجبران، هو الذي سيكون موضوع هذا المقال في جزءَين.

المعرض/الفرصة

إنه أَول معرض لجبران، وأَول منعطفٍ في سيرته رجلًا وفي مسيرته كاتبًا، وكذلك أَول صدمة فنية في سيرته ومسيرته معًا. لكن فضل هذا المعرض أَنه كان الفرصة التي نسجَت اللقاء بين جبران وماري هاسكل، ونسجَت معه قدَرُ جبران أَن تكون ماري هاسكل، من لقائها به في ذاك المعرض، قدَرَه الأَجمل في أَن تكون ماري راعيتَه وداعمتَه وحبيبتَه طوال عمره.

ليلة الجمعة 11 تشرين الثاني/نوڤمبر 1904، اندلعَت نارٌ هوجاء في مبنى هاركورت (الرقم 23 شارع إِرڤنغتون في بوسطن). وفي المبنى محترفات عدد من فناني المدينة، بينهم الرسام الانطباعي إِدموند تارْبِل (1858-1923)، ورسام المائيات فرنك بِنسُون (1862-1951)، ورسام المناظر وليم بارپـــي (1846-1940) ورسام الوجوه جوزف دوكامپ (1858-1923)، والرسام مؤَسس رابطة فناني بوسطن وليم پاكستون (1869-1941)، والمصوِّر الفوغرافي والناشر فْرِدْ هولند داي (1964-1933).

تداعيات الحريق

صباح اليوم التالي (12 تشرين الثاني/نوڤمبر 1904) صدرَت جريدة “لوس إنجلس هيرالد” وعلى صفحتها التاسعة عنوان “محترفات مبنى هاركورت مدمَّرة كليًّا والخسارة 200 أَلف دولار”، والتفصيل في الخبر التالي (منقولًا عن وكالة الصحافة “أَسوشياتِد پْــرِسْ”): “ليلة أَمس احترقَت مجموعة محترفات في كامل طبَقَتَي المبنى القرميدي المسمى “هاركورت” في بوسطن. وقُدِّرَت الخسارة بنحو 200 أَلف دولار. يضم المبنى في طبَقَتَيه شركة “هاتشينز” لآلات الأُرغن، ومكاتب جورج وُوْكِر للنشْر وحفر الليتوغرافيا، وشركة پنسيلفانيا للمعادن، ومحترفات نحو 30 فنانًا. وإِذ في العادة أَن ينام بعض الفنانين في تلك المحترفات، صدَفَ من كان منهم نائمًا عند اندلاع الحريق، إِنما أَنقذهم رجال الإِطفاء”.

رسالة جبران إِلى جوزفين پيبدي (14/11/1904)

لا تحزني يا حبيبتي

المؤْسف، مما يعنينا هنا، احتراقُ جميع أَعمال جبران، رسومًا ولوحاتٍ، حتى ولا أَيّ إِشارة إِلى عددها ومضمونها. غير أَن جبران، ابن الحادية والعشرين يومها (ولد في بْشَرّي ليلة 6 كانون الثاني/يناير1883) احتمَل الصدمة بصبر ونُضْج، وأَخذ هو يؤَاسي أَصدقاءه الذين صُدموا لهذه الكارثة، بدليل رسالته إِلى صديقته الأَقرب فترتئِذٍ الشاعرة جوزفين پــيــبَــدي (1874-1922) بعد 3 أَيام من الكارثة (الإِثنين في 14 تشرين الثاني/نوڤمبر 1904) جاء فيها: “صحيح يا حبيبتي أَن أَعمال سنوات الحب ضاعت في الحريق، إِنما لا تحزني، قد يكون وراءَ ذلك أَمرٌ جميل مجهول” (الرسالة موجودة في كتاب الباحث/الطبيب اللبناني الأَميركي الدكتور سليم مجاعص “رسائل جبران إِلى جوزفين پيبدي” – منشورات “كُتُب”، بيروت 2009). وإِلى أَسفل يسار ورقة الرسالة، رسَمَ جبران شعلةَ دخانٍ طالعةً من كومة فحم، وفي أَعلى الرسم كفُّ يدٍ مفتوحةٌ تتلقّى خيوط الدخان.

وواضح من عبارته “سنوات الحب ضاعت” أَن جوزفين كانت شاهدة على بعض اللوحات، بل كانت هي فيها، شكلًا ومضمونًا، لأَن جبران وضعها إِبان سنوات الحب العاصف بينه وبين جوزفين.

المقال صفحة كاملة عن المعرض (“بوسطن بوست” 27/3/1904)

المعرض قبل الحريق

إِذًا: ليس من دليل على عدد رسوم جبران ولوحاته التي احترقت في تلك الفاجعة. لكن الباحث الإِيطالي الجبراني المعمِّق فرنشسكو ميديتشي Francesco Medici وجدَ خلال أَبحاثه عددًا من جريدة “بوسطن پوست” (الأَحد 27 آذار/مارس 1904- ص 20) فيه مقال مطوَّل كتبَه أُستاذ الفنون في جامعة هارڤرد المؤَلف الناقد تشارلز إِليوت نُورتِن (1827-1908) يعدِّد فيه أَعمال جبران في ذلك المعرض ويعلِّق عليها. عنوان المقال: “فنانٌ عربيٌّ شاب في بوسطن – رسومُه الجميلة مثَارُ اندهاش”، وهو امتدَّ على صفحة كاملة مع سبعة رسوم من جبران، وصورة جبران الفتى.

بحْثُ ميديتشي وَرَدَ في إِحدى محاضرات “المؤْتمر الدولي الثالث عن جبران” (كانون الثاني/يناير 2018) في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU بيروت، وصدرت مع سائر المحاضرات كاملةً في كتاب “جبران في القرن الحادي والعشرين – رسالةُ لبنان إِلى العالم” (الطبعة الأُولى – منشورات “مركز التراث اللبناني” في الجامعة)، وعاد ميديتشي فأَصدر جزءًا من محاضرته تلك في موقع The Kahlil Gibran collective الذي يَنْشُرُهُ من أُستراليا الباحث اللبناني الأَصل Glen Kalem.

الخبر كما صدر في جريدة “بوسطن غلوب” (الأَحد 12/11/1904)

المقال المذكور في عدد تلك الجريدة، صدر بعد تعليق أَعمال جبران استعدادًا لـمعرضه الذي، بعد شهر، تَمَّ افتتاحه في 30 نيسان/أَبريل 1904، وكانت جوزفين پيبَدي دعت إِليه صديقتَها ماري هاسكل التي لم تستطع الحضور إِلَّا في اليوم الأَخير من المعرض (10 أَيار/مايو 1904)، وكان فيه لقاؤُها جبران أَمام لوحاته فرصةً غيَّرَتْ كلَّ حياته بولادة علاقة الحب الطويلة التي جمعَتْهُ بماري هاسكل (من تاريخ المعرض 1904 حتى وفاته 1931).

ماذا جاء في ذاك المقال الفريد؟

هذا ما أُفصِّلُهُ في الحلقة المقبلة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى