في كلِّ مُبدِعٍ خَيبةُ بيغماليون؟!

هنري زغيب*

يوم تعرَّفتُ بها في لقائنا الأَول قبل 50 سنة (1972) كان مـرَّ على غيابه ربعُ قرن. ومن يومها ما عدتُ أَغيبُ عنها، تَرَدُّدًا لديها، نَـهْلًا صورتَه في عينَيها (دامعتَين غيرَ مَرَّة)، تأَمُّلًا نبضاتِه في صوتها وهي تُحدِّثني عنه بلهفة عشْق رائع كأَنه ما زال يواعدها، كأَنه سيُلاقيها سرًّا تحت شجرة اللوز في مسويَّات الزوق، كأَنه سيدُقُّ الباب ويَدخل علينا، لا كأَنه غاب (جسدًا) قبل 25 سنة (27 كانون الثاني 1947).

وبقيَتْ بعده حتى وفاتها (10 شباط 2005 عن 90 عامًا) تُترجم حياتيًّا حبَّه إِياها بذاك الصدق الغريب، وحبَّها إِياه بذاك الوفاء العجيب، حتى استحقَّت جديرةً حدْسَه بلسانها خاتمًا رائعته “إِلى الأَبد”:

يا حبيبي: سيملأُ الحبُّ سجْني فَلْيشِيْدوا الحصونَ والأَسوارا

كلما غرَّق الظلام عيوني أَطْلع الحبُّ في دمي أَنوارا

تلك أُعجوبةُ الحب الحقيقيةُ في هذا العصر بين الياس أَبو شبكة وحبيبته ليلى التي، منذ عرفَها (1940)، اندفعَتْ إِليه بكُليَّةٍ ساطعة رغم بيئتها الضيِّقة التي تَرجُمُ الحبَّ الممنوع، فاندفع إِليها شُعورًا وشِعرًا ببكارة الحب المدهشة رغم وضعه الزَوجي والاجتماعي والأَدبي.

تلك ليلى التي تكرَّسَتْ له حَيًّا وبقيَت متكرِّسةً له في غيابه.

أَتكون وحيدة؟ طبعًا لا… نادرة؟ ربما… استثنائية؟ أَكيد… وإِلَّا؟ وإِلَّا ما سوى صيغة پــيغماليون في الميثولوجيا اليونانية: عزَمَ النحَّات القبرصي پـيغماليون على الزواج. وإِذ لم يجد في مدينته امرأَةً صالحةً يُحبُّها، نَحَتَ تمثالَ امرأَة من عاج أَبيض صقيل، سماها “غالاتيا”، تُعوِّض له عن أَيِّ حبيبة تُلازمه. وبلَغ من جمالها أَن تَوَلَّهَ بها امرأَةً صنيعتَهُ تعادلُ تَخَيُّلَهُ الحبيبةَ المنتظرة. لكنَّ إِلهة الحب اليونانية أَفروديت (ڤينوس الرومانية/عشتروت الفينيقية) حنَّت عليه فحوَّلَتْ “غالاتيا” امرأَةً حقيقية تَزَوَّجَها ووَلَدَت له ابنةً سماها پافوس على اسم مدينة أَفروديت. ولا تزال ﭘـافوس اليوم (50 كلم غربي ليماسول) مدينةً قبرصية أَثرية، على لائحة اليونسكو للتراث العالمي (منذ 1980)، وكان جورج برنارد شو سنة 1912 تناول الأُسطورةَ صائغًا منها مسرحيته الشهيرة “ﭘـيغماليون” محوِّلًا النحَّاتَ أُستاذَ لُغة و”غالاتِيا” بائعةَ زهور.

أَفيكون پـيغماليون مُحِقًّا أَن يعشق المرأَة صنيعتَه، لا امرأَةً ظَنَّ أَنها انتمَت إِليه إِيمانًا به؟

هل قَدَرُ المبدع، كلِّ مبدع، أَن يخلق صنيعتَه كي يحبَّها؟ أَيكونُ واهمًا أَنَّ التي حين التقاها رآها بعيون قلبه وروحه ومشاعره، وحين تَعرَّت حقيقتُها عاد يراها بعينَيه وحدهما فوقَعَ في فجيعة الخيبة؟

أَلَا يكون، ، مع كلِّ امرأَة جديدة عرفَها، تَسَرَّعَ بإِشْهاره أَنَّ هذا هو “حبُّه الحقيقيّ” ووهمًا كان كلُّ ما قبلَه وجميعُ مَن كُنَّ قبلها؟

أَهي لهفتُه الدائمة إِلى الحب الحقيقي؟ أَم هو خوفُه من الوحدة الداخلية والاستيحاد الخارجي؟

أَين تلك الـ”ليلى” (كَــحَبيبة أَبو شبكة) تندفع إِليه مؤْمنةً به فلا حاجةَ بعدُ أَن يُضيف في شعره قبَسًا منها كي تكتمل القصيدة، حتى إِذا انقشعَت عنها تخيُّلاتُه عادت امرأَةً عاديةً تَتَأَرعَنُ أَو تتحكَّم أَو تُدير ظهرها في ساعة الصفْر وتختفي في تصرُّفٍ موتورٍ غيرِ مبرَّر؟

أَين هي الـ”ليلى” تقتحم “تابو” الحب الممنوع بإِيمانها أَنَّ الحب لا يأْتي إِلَّا مرة وحيدة في العمر، وإِلَّا فالرتابة القاتلة والزواج البليد؟

إِنه وَهْمٌ ويَمضي… عمرٌ ويَمضي… حياةٌ تتكسَّر فيها خيبةُ المبدع مالحةً على شاطئ أَحلامه، فلا تبقى له سوى صنيعتِه عند الغروب،  ويَصدُق قولي في قصيدة لي قديمة (“وجْهُكِ والسؤَال” من مجموعتي الشعرية “تقاسيم على إِيقاع وجهكِ” – 2005):

“… وها: لا وَفِـيَّ سوى الشِعر… منه أَنا… وإِليه… وفيهِ.

… كَما وردةُ الصُبح تَذوي غُروبًا…ستَمضِين يومًا وتبقى القصيدة”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى