حين ريشاتُهم تأْخذنا إِلى الصيف (2 من 2)

فتريانو: “رقصة صيفية على رمل البحر” (1992)

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذا المقال عرضتُ باقة لوحات من فنانين أَجانب عن الصيف، وسردتُ كيف للصيف مع ريشات الرسامين مواعيد وأَمكنة وطقوس فنية وأَساليب مختلفة، وكيف كلُّ فنان في العالم يقارب الصيف، وكيف يمكن أَن تستقطب لوحته سيَّاحًا يقصدون البلدة أَو المدينة أَو القرية لأَنهم شاهدوا اللوحة وأُعجبوا بها.

في هذا الجزء الثاني الأَخير باقة أُخرى من لوحات الصيف بريشات فنانين عشقوه واسترسلوا له بريشاتهم.

هوبِّر: “إِبحار في قارب صيفي” (1911)

زهو الصيف على البحر

وضع السكوتلندي جاك ڤيتريانو (م. 1951) ثلاث لوحات تشير إِلى طفولته ونشأَته في بلدة مِثِيل الساحلية (شرقي سكوتلندا)، فنشأَ معه جوُّ البحر حتى سطع في لوحاته زهوةَ مرح ونكهةَ صيف، عبَّر عنها بالباستيل القوي وألوان زاهية وواقعية مباشرة حتى لتبدو لوحاته كأَنها بطاقات فوتوغرافية مصوَّرة بالكاميرا. وهو جال في لوحاته على لقطات عدة في مواقف متعددة، جميعها تحمل فرح الحياة في رحابة الصيف على شاطئ البحر.

بوتّيرو: “كونشرتو في ليلة صيفية” (1995)

وجه في فاكهة الصيف

الإِيطالي جيوزيبي آرتشيمبولدو (1526-1593) اشتهر في ميلانو بوضعه لوحات خيالية تظهر فيها رؤُوس ووجوه بشكل خضَر وفواكه وأَزهار وأَسماك وكُتُب. من أَشهر لوحاته “وجوه صيفية” (1573) يبدو فيها وجه رجُل مكوَّنًا من عناقيد عنب وأَزهار صيفية وفواكه صيفية وخضُر مأْخوذة كما هي من الأَرض والأَشجار. وكان من عبقرية آرتشيمبولدو الفنية أن يغشَّ العين ببصريات وهمية كي يتفرَّس المتلقي جيِّدًا في لوحته التي يزركشها بعناصر كثيرة حول النقطة الرئيسة في اللوحة. ومن أشهر لوحاته تلك التي وضعها لفصول السنة الأَربعة، وعناصر الطبيعة الأَربعة، في تنويعات لونية رمزية لا يلتقطها إِلَّا من يتأَمل اللوحة عميقًا.

زاكاريفيك: “ولدان وهميان على دراجة حقيقية” (2012)

الصيف على  متن الحصان

من اقتراحات الصيف كذلك امتطاء الحصان في الفلوات. وظهر ذلك في لوحة الفرنسي جاك لويس دافيد (1748-1825) عن نابوليون سنة 1801، احتفاءً بانتصاره واجتيازه جبال الألب ليبلُغ إِيطاليا ويحرِّرها من النمساويين سنة 1800. وهو طلب منه أَن يجلس على متن الحصان ولا يتحرَّك حتى يلتقط له أَصغر التفاصيل والملامح. لكن نابوليون لم يحتمل البقاء طويلًا هكذا، فأَكمل الرسام اللوحة من ذاكرته وبدا فيها نابوليون أَصغر مما هو، لكن الرسام جعل من لوحته هذه تحفة فنية خالدة تناقلتها العصور.  وفي مهارة الرسام ما يغري صيفًا بركوب الفرس رياضة صيفية تحت شمس دافئة وسماء صافية في سهل وسيع.

القارب في المياه الزرقاء

كان إِدوارد هوپِّـــر (1882-1967) رسامًا أَميركيًّا مغايرًا ولد في ناياك (نيويورك) على ضفة الهدسون، وبرع في أَساليب عدَة ونجح فيها جميعها. من هنا لوحته “الإِبحار في شمس الصيف” التي يبدو فيها تأْثيره على السكوتلندي ڤيتريانو، وتأَثُّره في سنوات دراساته الرسم بأسلافه مانيه ودوغا ورامبرنت في دقة التفاصيل وفي أُسلوبهم الواقعي، ما بدا في لوحاته من دقَّته في الأَلوان والنور والظلال. وفي لوحته ما يغري بنزهة هانئة هادئة في قارب صيفي.

إِيغ: “مسافرتان صيفًا على شاطئ الريفييرا” (1872)

وللموسيقى نكهتها الصيفية

من الخارج في الطبيعة إِلى الداخل، يقترح الرسام الكولومبي فرناندو بوتيرو (م.1932) تمضية الصيف في حضور الأُمسيات الموسيقية. ويعبِّر عن ذلك بطريقته التشكيلية الخاصة. ففي لوحته “كونشرتو” رسم زوجَين في غرفتهما ذات ليلة صيفية كولومبية حارَّة تدفع الناس إِلى التخفيف من ملابسهم. وهو وضع لوحته بأَلوان ساطعة إِنما بتفاصيل الجسم والوجه وفق أُسلوبه الذي يقترب من الفن الساذج لكنه مغاير عن الرائج من هذه المدرسة الفنية.  ويبدو الزوج فاغرًا فمه ما يعني أَنه يعزف على الغيتار ويغنيز  وتبدو زوجته مصغية بانتباه، والكلب كذلك يصغي، وفي الخارج من البعيد رجل في الشارع يقف قريبًا من النافذة وكأنه يصغي كذلك.

الدرَّاجة الصيفية

في صيف 2020 انطلقت في مدينة جورج تاون (عاصمة مقاطعة بينانغ في ماليزيا) الدورة الأُولى من “مهرجان جورج تاون السنوي للفنون والثقافة” محتفلة بدخولها “لائحة منظمة اليونسكو للتراث العالمي”. وهو مهرجان صيفي يشارك فيه عدد كبير من الفنانين الماليزيين والأَجانب جعل المدينة وُجهة سياحية وثقافية عالمية.

بين الأَعمال التي ظهرت في الشارع إِبَّان المهرجان: جدرانية “ولدان على دراجة” للرسام الليتْواني إِرنست زاكاريڤيك (م. 1986) وهو أَحب مدينة جورج تاون واختار الإِقامة الدائمة فيها. الطريف أَنه لم يرسم الدراجة بل هي موجودة فعليًّا في الشارع مستندة إِلى الجدار، لكنه رسم على الجدار فوقها ذينَك الولدَين. وهو ما سمَّاه “فن الشارع” الذي يمحو المسافة بين المتلقّي والعمل الفني. وفي ضحكة الولدين الغامرة نكهةُ الصيف وبهجتُه في نفوس الأَولاد بعد مغادرتهم أَشهُر الدراسة في المدرسة.

سفَر الصيف

الرسام الإِنكليزي أُوغُست ليوبولد إِيغ (1816-1863) وضع سنة 1862 لوحة “الرفيقتان المسافرتان” زيتية جميلة لفتاتين في مقصورة قطار، كأَن الواحدة منهن مرآةُ الأُخرى. الأُولى تنام، الأُخرى تقرأ. الأُولى بدون قفازين، الأُخرى تحتفظ بهما. وبشكل عام تتشابه في اللوحة التفاصيلُ بينهما حتى ليصعب تفسير اللوحة بين أَن تكون الفتاتين صديقتَين تلبسان فستانَين متشابهين، أَو أَنهما وجهان للفتاة ذاتها في وضعَين مختلفين.

في الخارج، شمس ساطعة، على شاطئ الريفييرا الفرنسية، حيث كان الرسام يُمضي سنويًّا فصل الصيف.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى