وَرَقَةُ المليون ليرة، تكريسٌ لِواقعٍ يُلامسُ القَعر

البروفسور مارون خاطر*

يَعودُ الكلامُ على إصدارِ ورقةٍ نقديَّةٍ من فِئَة المليون ليرة في لبنان لشهر آذار من العام ٢٠٢١. حينها، تناقلت وسائلُ التواصل الاجتماعي تصميمًا لهذه الورقة تَبيَّنَ بعدَ التدقيقِ في تفاصيله أنه انتقادٌ ساخرٌ للسياسات الماليَّة والنقديَّة لمصرف لبنان الذي سارَعَ إلى نَفي هذه “المزاعم” بشكلٍ قاطع. وبعد خمسة عشر شهرًا، تحوَّلت المَزاعِمُ إلى حقيقة وتكرَّست السُّخرية واقعًا مَريرًا. ففي مقابلته الأخيرة، أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بهدوءٍ مُريب توجُّهَهُ لِطَلَبِ إصدارِ عملةٍ نقديَّة من فئة المليون ليرة في خطوةٍ ذات دلالاتٍ مُتعدّدة على الصَّعيدَين الاقتصادي والنَّقدي.

عمليًا، سيُسَهِّل الإصدارُ الموعود التعاملات النقديَّة ويُقلّل من المخاطرِ المُتعلّقة بحيازةِ كميَّة كبيرة من الأوراق النقديَّة. إلّا أنَّ هذا بِحَدِّ ذاته يُنذِرُ بالأسوَإِ إذ تَعكِسُ هذه الخطوة حَجمَ الانهيار الاقتصادي المُستَمِرّ في ظلِّ غيابِ المُعالجات الجِديَّة من جهة، وخسارة العملة اللبنانيَّة لأكثر من ٩٠ في المئة من قيمتها كنتيجةٍ لهذا الانهيار من جهة أخرى. في مُطلق الأحوال، ليس هذا الإعلان إلّا بمثابةِ تَكريسٍ لواقعِ الليرة التي تَكَاد القيمة السوقيَّة لبعض فئاتها لا تساوي حتَّى كِلفة اصدارِها. إلّا أنَّ الأخطر هو الخِشيَة من أن يكون هذا الإصدار مؤشِّرًا لاستمرار “الاقتصاد النقدي”. من المُهِم الإشارة إلى أن استدامة الاقتصاد النَّقدي تُشكِّلُ عائقًا حقيقيًا أمام نهوضِ القطاعِ المصرفي بعد إعادة هيكلته. كما أنها تُعَقِّدُ عمليات مُراقبة حركة الأموال والتدفُّقات النَّقديَّة في الداخل وهي عمليّة بالغة الأهميَّة اقتصاديًا وماليُا وأمنيًا وعلى مستوى الحَوكَمَة. ففي أوروبا مثلًا، تُفرَضُ قيودٌ على التعامل بفئة الـ ٥٠٠ يورو بسبب استخدامها المُتَكرّر في عملياتٍ مشبوهة وارتباطها بأنشطةٍ غير قانونية مثل الفساد والتهرّب الضريبي وتمويل الإرهاب وتبييض الأموال. إذا كان هذا هو الحال بالنسبة لأوروبا، فكيف يكون بِالحَريّ حالُ بَلَدِنا المحكوم بِسَطوةٍ من الفساد والفاسدين والرازح تحت وطأة غيابٍ شبه كاملٍ لِسُلطة القانون على الحدود وفي الداخل؟

معيشيًا، ليست هناك أيّ علاقة مُباشَرة بين إصدارِ فئة المليون ليرة وسعر صرف الدولار. فَمِن غير المتوقَّع أن يُحدِثَ الإصدار الموعود زيادةً في حجم الكتلة النقديَّة المُتداوَلة بل إنه من المُمكن أن يؤدّي إلى تقليصها عبر عملياتِ استبدالٍ تتزامن مع وضع الفئة الجديدة في التداول. إلّا أنَّ ذلك لا يعني أبدًا أنَّ سعر صرف الدولار لن يَستمرَّ في منحاه التصاعدي إذا استَمَرَّ غيابُ المُعالجات البنيويَّة الجذريَّة. فَمِنَ المُستحيل أن يَستقيمَ الوَضعُ في غيابِ استقرارٍ سياسيٍّ مُستدامٍ يُوحِّدُ الجهود والقوى ويُمَهّدُ لِخطَّةٍ اقتصاديةٍ قابلةٍ للتنفيذ تواكبها إصلاحاتٌ حقيقيَّة على مستوى السلطات التشريعيَّة والاجرائيَّة والقضائيَّة. لا يُمكِنُ للمنصَّة والتعاميم والمواسم السياحيَّة والوعود النَّفطيَّة أن تُشَكِّلَ حلولًا في غيابِ الحلول. ليس ما نشهده من عقباتٍ أمام تشكيل الحكومة إلّا مثالًا على عدم مسؤولية، بل على عدم أهليَّة غالبية من يَصنَعون القرار أو يتبلَّغونه.

في قراءةٍ أشمل لِواقِعِ الحال، باتَ من المؤكَّد أن عَقارِب السَّاعة لن تَعودَ إلى الوراء وأنَّ النَّعيم المُزَيَّف والباهظ التَّكلِفة الذي عشناه لسنواتٍ طويلة وموَّلناهُ من ودائعنا لن يَعودَ، كما أن الودائع لن تَعود. كذلك بات مُثبتًا أن شراء الوقت عبر ابتكار أساليب ترتكزُ إلى نتائج الأزمة لَن يُفضي إلى علاجِ أسبابها وهي أسبابٌ لا يُمكن أن تعالجها النَّرجسية وعَدَم الجِدّية والفساد والتَّمَرُّد. المطلوب اليوم ليس تعديلًا حكوميًا أو حكومةٌ تَغرَقُ في تفاصيل التمثيل بانتظارِ فراغٍ رئاسي مُحتَمَل، بل حكومةُ طوارئ تُحدِثُ خَرقًا في الوقت المُتَبَقّي حتى نهاية العهد تلافيًا لانفجارٍ اجتماعي بات وشيكًا. في لبنان يُعيدُ التاريخ نفسه عند كلِّ استحقاق فيقترعونَ مُجَدَّدًا على ثياب وطنٍ جريحٍ رازحٍ تحت صليبِ أوجاعٍ يتسبَّب بها من يَعلمون جيداً ماذا يفعلون!

نأمل ألّا يكون الإصدار الموعود خطوةً أولى تُمَهّدُ لإصداراتٍ مُتلاحقة تَعكُسُ تسارعًا في الانهيار ونُشَدّدُ على ضرورةِ أن يَذهَبَ لبنان باتجاهِ إيجادِ مَخارج حقيقية لأزمته. لا بُدَّ لهذه الحلول أن تنطلقَ من السياسة، وهي أم الأسباب، لِتَصِلَ إلى الاقتصاد والمال والنَّقد، عسى أن يأتي يومٌ نَحذُفُ فيه الأصفار بدلًا من زيادتها.

ما يصبو إليه اللبنانيون ليس تدابير تَرفَعُ من قدرتهم على التَكَيُّف مع الأزمة ولا إصدارات تُخفّف وزن الورق دون حِفظِ قيمة الحِبر، بل حلولٍ لن يجترحها مَن هُم أبعد ما يكون عن المسؤولية الأخلاقيَّة!

التأليفُ خيرُ دليل…

  • البروفسور مارون خاطر هو أكاديمي، كاتب وباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @ProfessorKhater
  • يصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى