شَمسٌ في لَيلِ الطَريق

رشيد درباس*

عن أملٍ لا شفاء منه (فوّاز طرابلسي)                       

لا أُضيفُ جديدًا إن كتبتُ مزيدًا في تصدّعِ الدولة وتهتّك السلطة، واقتياد اللبنانيين من دون إرادة معظمهم، وبعكسِ مصالحهم وأنماط عيشهم، إلى خيارات اعْتُمِدَت في مكان ما خارج السلطات الدستورية، وسطَ حمأةِ صراعٍ إقليمي بين تطبيع يتمادى، ومُمانعة لم نرَها تلجمه. ذلك أن التطبيع قد يتم علنًا على شكل معاهدة كامب دايفيد وما تلاها، وقد يتم سلبًا، بالمناحرات الداخلية التي تدمِّرُ المجتمع، وبالإفقار العام الذي يفقده ميزاته التفاضلية، فتكون إذّاك الفرص آمنةً أمام إسرائيل لتتحولَ إلى نقطة جذب استثمارات مهمة لا منافس لها فيها.

كذلك لا أضيف جديدًا إذا قلت إن لبنان قد فُرِضَ عليه أن يشتري بثمن باهظ جدًّا خطابًا عالي النبرة، فائق الحماسة، فيما ينبغي للمباهاة أن تكون بالإنجازات الملموسة لصالح حياة الشعوب؛ أما الكلام الضّخمُ المُفعَم بالتهديد والوعيد فكثيرًا ما يفقد آثاره على سامعيه الجوعى بمجرد انتهائه، لأن المعارك المصيرية لا تُبنى على قعقعة السلاح وزنود الأبطال فحسب، بل على اقتصادٍ ركين أيضًا، لئلّا تفقدَ إمدادها، وتكشف أمان ظهرها أمام الأعداء والمُتذمّرين على حد سواء.

أما لزوم ما لا يلزم فهو الحديث في أن لبنان فقد حرية القرار منذ انغمست فئاته، طوعًا أو قسرًا، في الصراعات الخارجية، وهو الآن محكومٌ بما تسفر عنه المساومات والمؤتمرات والمؤامرات.

إنني مُسَلِّمٌ بكل ما سبق، بل أكاد أستسلم لجبروت وقائعه، لولا ظواهر جدية راحت تطفو على سطح الحياة العامة اليومية للناس، جماعاتٍ وأفرادًا، أولاها انتفاضة 17 تشرين الأول للعام 2019، حيث اندلعت الجماهير على امتداد الخريطة، بسبب شرارة (الواتساب) القليلة الشأن، فكانت إشارةٌ مرعبةٌ للحضرة السياسية، استدعتها إلى أن تستغل عفوية الانتفاضة عبر اختراقها بقيادات مزعومة أو ملغومة، وعبر الانقضاض على سلميتها بإرهاب الهراوات والتكسير والإحراق والمجاميع المضادة.

ربما أحْبَطَنا بعد ذلك الانكفاءُ العام، فَتَحَسَّرْنا وقلنا: “كانت فرصة جديدة للخلاص ضاعت على لبنان”. لكن التطورات اللاحقة أثبتت أن حركة الشعب اللبناني جزء من دستور الطبيعة، لا من قانون السياسة التقليدية التي قامت على التحاق العَلَق الفاسد سياسيًّا وماليًّا وأخلاقيًّا بسلطان أمر واقعٍ يفضل الحلفاء الفَسَدَة على سواهم، ليسهل عليه تطويعهم وقيادهم، كما حصل سابقًا على هامش سلطة المقاومة الفلسطينية ثم إبان الحكم السوري المباشر، وصولًا إلى ما نراه اليوم من نتائج (مار مخايل). فإن دستور الطبيعة يعلِّمُ أن السيل إذا انحسر وغار في الأخاديد لا بدَّ له من أن ينبثقَ في مكان آخر، نقيًّا متدفقًا متخلصًا من شوائبه، لأن جوف الجيولوجيا لا يمتثل لما يُبْنَى على قشرة سطحها، بل هو كالمشاعر والمصالح الإنسانية، مهما يَطُلْ قمعها فإنها تتمرد من حيث لا يدري ولا ينتظرُ القامعون.

ولعلَّ ثلاثيةً من المستجدات الإيجابية الراهنة تؤكدُ هذه الحقيقة. الأولى نتائج الانتخابات الأخيرة التي جرى فيها الالتفاف الاقتراعي على مقاصد قانونها الخبيث، فتسربت من ثغرات شقوقه وجوهٌ بات عليها إثبات جدارتها بأن تتحدث باسم المنتفضين، متخذةً من الرصانة لسانًا والواقعيةِ لغةً والهدوء أداءً، نائيةً بخطابها عن الشعبوبة والغضب المُتلِف للأعصاب والآذان. ولهذا أنصحهم بأن يجعلوا مهابة وقعهم في البرلمان أجزلَ من عدد مقاعدهم، إذ كثيرًا ما شهد المجلس فرسانًا فرادى عُزَّلًا، كانوا محطَّ ثقةِ الناس وموضع حذر السلطة. وألفتهم إلى أن الانجرار إلى المناكفات والمنازلات الكلامية يفقدهم تلك المهابة، لأنَّ واجبَهم، على صغر أعمارهم، أن يكونوا طليعة أهل الحكمة في طريق استرداد الدولة لتوازنها. فليكن “الكتاب” مرجعيتهم، وحراسة نصوصه من التلاعب والتفسيرات البهلوانية مهمّتهم المقدسة؛ وليعلموا أن تجربتهم إذا فشلت، فإن رعيلًا آخر سيخرج من رحم تلك الانتفاضة، لا من الجينات الإرثية لساسة لبنان، له من السجايا الرصينة والحليمة ما يتجنّب العودة إلى العادات القديمة بادعاء احتكار الحقيقة والرؤية والأستذة.

ثاني المستجدات، ثبوت التداخل الطوائفي المُتجذّر في عمق طبقات  البسيكولوجيا الجماعية اللبنانية، تجذّرًا يُقلّل حظوظ دعوات الانفكاك والتفرّق. وقد تمثل ذلك بوحدة المعاناة المعيشية، وبالقلق الذي ساور المجتمع بتنوّعه السياسي والاجتماعي من قرار الاعتكاف الذي اتخذه الرئيس سعد الحريري، فأدى إلى اختلال المعادلة بكامل معطياتِها إزاءَ ما عرا الطائفة السنية من وجوم وارتباك كاد يودي بها إلى حقل مغناطيسي، لولا مبادرات حاولت تدارك الخطر الأعظم بترميم ما يمكن. هنا يقتضيني الحق وتلزمني الصداقة، أن أتوجه للرئيس سعد بكلام موجز، مفاده أنه أثبت بالامتناع رسوخ مقامه الشعبي. ربما كان قراره مناسبة لإقرار الآخرين بذلك، وربما أعطى به لنفسه فرصةً من خارج الضغوط الهائلة، وبعيدًا من ألاعيب الانتخابات، للتأمل في المرحلة الماضية، والتفكر في التسوية التي سار بها، وقانون الانتخاب وما نجم عنه من آثار، والكرم الذي أغدقه على مَن لا يستحق، للخروج برؤية جديدة تستفيد مما حصل من تطورات لم تدر في الحسبان. كما أصارحه بأن عليه أن يُسَرَّ بمن اجتهد من رفاقه ورفاق درب الشهيد أبيه، لأنني وكشاهد عيان، أؤكد له أن كل من حاول صيانة الوضع، وأولهم الرئيس فؤاد السنيورة، لم يكونوا في وارد وراثته بل كانوا يسعون إلى حفظ الرصيد من التسرّب وصد الاختراقات النَّهِمَة التي سال لعابها لمجرد غيابه، بل إني سمعت من الرئيس فؤاد مرارًا، أنه بمساعيه لا يمحو آثار سعد، كما زعم الزاعمون، بل هو يحرس ظله استشعارًا منه بالمسؤولية الوطنية والعاطفية على حد سواء؛ ولعلَّ الوقت القريب يشهدُ مشاورات تتخطّى سوء التفاهم إلى استعادة المجرى الذي طالما رفدته الجداول المتنوعة.

وأما الإيجابية الثالثة فتكمن في أن التوجه الشعبي العام ما زال مُتشبّثًا بالأمل، وهذا ليس بمستغرب من اللبنانيين الذين زوَّدهم إيمانهم بالحرية وممارستهم لها، بمُعينٍ لا ينضب من الابتكار للتحايل على الصعوبات وتذليل العقبات، فلهم من تجارب النجاح ما أهّلهم للاستعانة بالشمس والرياح تغلُّبًا على ظلم الظالمين وظلمتهم، ولهم من الحنكة والخبرة والعلم ما أبقاهم على توازنهم رُغم سرقة أموالهم، وتهريب طحينهم وتدمير مرفأهم، وتعكير مائهم، وتقطيع اتصالاتهم، فلم يذهبوا إلى اليأس أو الفوضى، بل مارسوا التكيّف بأرقى أشكاله، وأثبتوا أنهم أصحاب باع طويل في التعاطي مع الصدمات والزلازل التي تحدث من حولهم، فاستطاعوا بالرغم من كل الصعوبات الداخلية والخارجية، الحفاظ على توازنهم العام، وعلى متانة الوشائج الاجتماعية في ما بينهم، وليس أدلَّ على ذلك من أفعال الخير العامة والخاصة التي يأتونَها في مناسبات عديدة، كمن ينير العاصمة والبلدات، ويُحَوِّل ليل الأوتوستراد الشمالي ضوءَ نهارٍ ويبقى وَجْهَهُ خفيًّا من غير أن يبتغي أجر انتخاب أو سياسة، أو كمن يعطي لاستنقاذ مريض من أبناء وطنه. كما استطاعوا الحفاظ على كيان الدولة القائم فوق فالق جغرافي سياسي محتدم، وهم مطالبون اليوم بأن يجعلوا الممانعة عندهم قاسمًا مشتركًا لا عاملًا مفرقًا، ومناط هذا مناعة وطنية تعرف حدودها، فتتحاشى آثار الزلازل الممتدة من أوكرانيا مرورًا ببحر قزوين والعراق وفلسطين وسوريا، حفظًا للدولة من أن تكون لقمة سائغة، أو كيانًا قابلًا لإعادة النظر.

تبقى لي ملاحظة على هامش الاستشارات الملزمة، وهي أن انتخاب رئيس الجمهورية وتسمية رئيس الوزراء لا يقومان على الترشيح، بل على إرادة النواب. فإذا لم يجد نواب جدارة في أيٍّ من الأسماء المتداولة، كان عليهم أن يبحثوا عن ضالتهم بين مئات أو آلاف من أبناء الطائفة السنية، كي لا تكون هناك شبهة بخلوِّها من الكفاءات، أو تكون شبهة أدهى بأن يكون سبب الامتناع عن التسمية، سدادًا لدين، أو حقلًا من حقول المساومة المستدامة. يقول المثل الفرنسي:” من يُحسِنُ الحسابَ لا يثق بحساب” فالشكر للرب أن غبطة البطريرك بشارة الراعي الذي يحسن الحساب، ينبري دائمًا لتصويب الزَّلَل في حسابات الآخرين، فيُهنّىء الرئيس المكلف ويدعوه بأعلى الصوت إلى خير العمل والإسراع في تشكيل حكومتة فيلبيه المكلف على الفور بانتظار التوقيع الأخير.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى