الرَغِيفُ المُتَفَجِّرُ وشَرارَةُ الثوراتِ الكُبرى؟!

عرفان نظام الدين*

لم يتعلَّم أحَدٌ من دروسِ التاريخ، ولم يَتَّعِظ من نيرانِ الثورات الكبرى التي هزّت العالم وقَلَبَت الأوضاع وحقّقَ بعضها الآمال بينما أسفرَت عن البعض الآخر ويلاتٌ وكوارثٌ دفعت ثمنها الشعوب التي وقعت فريسةً بين سندانِ الواقع المرير والفقر والحرمان والظلم والقهر ومطرقة الفوضى والفساد وقمع الحريات، أي بين السيّئ والاسوَإِ.
وبات معلومًا أنّ أعظمَ النار يأتي من مُستَصغِرِ الشرر. فالنقمة والفوضى والثورات الكبرى انطلقت من الجوع والحرمان والغضب وهي بعض المُسَببات التي تجسّدت في شرارة الرغيف المُتفجّر وهو أمرٌ تكرّرَ في كثيرٍ من الدول الاجنبية ومعظم الدول العربية.
فمن البديهي ان تُؤمِّنَ الدولة المٌمَثَّلة بالسلطة الحاكمة كل مستلزمات الحياة الكريمة والحاجات الرئيسة للمواطن، لكن هذا الأمر لم يحصل بل ساد الجوع وارتفعت الأسعار وفُقِدَت المواد الحياتية من أغذية وأدوية والطبابة والتعليم وفُرَص العمل. ورُغمَ أهمية هذه المطالب فإنَّ الخبز، أو ما يُسمّى في بعض الدول بالعيش ولقمة العيش، يظل المادة الأكثر حاجة باعتباره خطًا أحمر لا يُسمَح بتجاوزه، وهذا ما نشهده كل يوم في طوابير الذل المتلازمة مع المشاحنات والمشاكل والتوترات.
ونعرف جميعًا أن العرب هم من أوّل الشعوب الآكلة للخبز حسب العادة ونوعية المأكولات والقدرة على إشباع العائلة وإرضاء الأطفال بلف “ساندويش” أطلقوا عليه إسم “عروسة” جبنة او لبنة كنوعٍ من الترغيب، فكيف يُسمَح برفع أسعار الخبز وتقنين توزيعه علمًا أن الخبز صارت له مُتفرّعات تُباع بأغلى من سعر الخبز مثل الكعك والكرواسان والمناقيش وغيرها.
وزاد من عمق الأزمة ارتفاع اسعار القمح وتاثير الاحداث والحروب، مثل حرب أوكرانيا التي تُنتج نسبة كبيرة من كمية الانتاج العالمي من القمح. وهنا يُطرَح السؤال الكبير الذي يتجاهل الجميع الردّ عليه وهو: لماذا تُحارَبُ زراعة القمح في الدول العربية التي حباها الله بكل مقوّمات إنتاجِ أفضلِ أنواعِ القمح في العالم من تُربةٍ وأنهار وأمطار ويد عاملة خبيرة متوارثة عبر التاريخ؟ ومن السؤال الأول نُردّدُ دائمًا أسئلة حائرة ومؤلمة: أين قدرات ما كان يُعرَفُ بالهلال الخصيب؟ وأينَ إهراءات الشرق والغرب في سوريا ولبنان والعراق؟ وأين السودان وسلّة الغذاء العربي؟ واًين منظمة الزراعة العربية؟ وأين؟ وأين؟… ألف سؤال وسؤال عن الحقيقة المكتومة؟ وهل هو مجرد تقصير أم إنه عملٌ مقصود ومفروض من القوى الكبرى؟
تبقى ملاحظة أخيرة وهي عن عادات التبذير وشراء كميات أكبر من حاجة العائلة ورمي آلاف الأرغفة في مستوعبات النفايات. وهذا حرام تنبهت له أمهاتنا وجدّاتنا وحوّلن الكميات الزائدة من الخبز إلى أطباقٍ لذيذة بقليل من الجهد والكلفة، وهي تتصدّرالآن المآدب والمطاعم السورية واللبنانية مثل الفتّة (التسقية الشامية) بسمنة او بزيت وفتّة المكدوس ( الباذنجان) وبعض الحلويات مثل أُم علي الشهيرة. و لا يتّسع المجال هنا لشرح المُكوّنات لكني اتمنّى على القارئات الغاليات القيام بهذه المهمة وشرح طرق إعداد هذه الاطباق اللذيذة وغيرها.
وأعود الى شرارة ثورات الخبز لأُذكِّر بالثورة الفرنسية الكبرى ومقولة ماري انطوانيت ملكة فرنسا وزوجة الملك لويس السادس عشر عندما قيل لها بأن الشعب جائع ويطالب بالخبز، فردت بكل لامبالاة وغرور: ليأكل “غاتوه” أو في رواية أُخرى ليأكل بسكويت؟ فكانت النتيجة قطع راسها بالمقصلة (في العام١٧٧٢) مع أني أعتقد أنها لم تقل شيئًا بل نُسب هذا الرد الاستفزازي إليها للتحريض، وكان أول من ردده جان جاك روسوجاك روسو؟
وأختم مع تعليقٍ صادمٍ يُمثّل السخرية السوداء وتوصيف الأحوال المُهينة والمؤسفة التي وصلنا إليها. فقد هدّد مسؤولٌ إسرائيلي بغزو لبنان وصولًا إلى بيروت، فردّ عليه أحد اللبنانيين عبر التواصل الاجتماعي: جيبوا معكم خبز؟؟!
مزحة ثقيلة ومؤسفة لكنها تُعبّر عن واقعٍ أليمٍ وصلنا إليه، وعمَّن أوصلنا إليه. يا للعار! في الختام اعود للأصالة والقيم التي يستخدمها الناس للتعبير عن أهمية الخبز في تعميق الاواصر بالقول: صار بيناتنا خبز وملح.

  • عرفان نظام الدين هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي عربي مُقيم في لندن. كان سابقًا رئيس تحرير صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى