لبنان إلى أين عَشِيَّة الاستحقاق الرئاسي؟

الدكتور ناصيف حتّي*

مَن يَنظُرُ إلى الوضعِ في لبنان يَتَصَوَّرُ أنه يَعيشُ في مسرحِ اللامعقول: إستمرارُ وتَسارُعُ وتيرةِ الانهيار الذي حذَّرَ منه ومن تداعياته المُخيفة والمختلفة كثيرون، فيما تقوم اللعبة السياسية حول تشكيل الحكومة وتحديدًا حول شكل الحكومة، كما لو أن لبنان يعيش ظروفًا طبيعية. لعبةٌ يؤثر فيها استحقاقُ الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولا يكفي تصريحٌ سياسي من هنا أو هناك حول المخاطر القائمة وضرورة الإسراع بالتوصّل إلى حلٍّ بشأن تشكيل الحكومة. المفروض أن تَنعَكِسَ المخاوفُ والتحذيراتُ التي نسمَعها في مُقاربةٍ جدّية وفاعلة ومُشترَكة على الصعيد العملي من كافة المُكوّنات السياسية لتشكيلِ حكومةٍ سَمَّيتُها سابقًا حكومة هدنة وطنية. حكومةٌ تعمل على وقف الانهيار الذي تطالُ نتائجه الجميع، أيًّا كانت رهانات هذا الطرف أو ذاك على مُتغيِّراتٍ خارجية تصبّ في مصلحته، كما هي دائمًا الرهانات في “اللعبة السياسية” في لبنان .

لكن النقاشَ الدائر اليوم ينصَبُّ حول ما يلي: هل تكون حكومة تكنوقراطية أسوة بالحكومة الحالية وتلك التي  سبقتها، يَتَحكَّمُ بها بدرجات مختلفة أرباب اللعبة السياسية من خارجها، أم حكومة سياسية بسبب طبيعة المرحلة كما يقول أصحاب هذا الرأي، أم حكومة تكنوسياسية يلعب فيها الوزراء السياسيون دور “حرّاس الهيكل”. كلٌّ بالطبع له تعريفه للهيكل الذي يجب الحفاظ عليه في مرحلةٍ انتقالية قد تطول او تقصر. فالحكومة إذا ما شُكِّلَت ستتولّى مواكبة حصول استحقاق الانتخابات الرئاسية في الأشهر الاربعة المقبلة، في الفترة المتبقية لانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، هذا إذا ما احتُرِمَ مَوعِدُ هذا الاستحقاق وجرت الانتخابات في موعدها. ولكن هذه الحكومة ستُناط بها صلاحيات رئيس الجمهورية (المادة ٦٢ من الدستور) إذا لم يتم احترام الاستحقاق المُشار اليه قبل انتهاء ولاية الرئيس عون، وحصل الفراغ الرئاسي. الأمر الذي  حصل  سابقًا مع انتهاء ولاية  الرئيس ميشال سليمان  بين ٢٠١٤ و٢٠١٦ وقبل ذلك مع انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود بين  ٢٠٠٧ و٢٠٠٨. ذلك ما يُفسّرُ إصرار البعض على تشكيل حكومة سياسية للمشاركة مباشرة في إدارة البلاد فيما لو حصل الفراغ الرئاسي الذي قد يطول، وللتأثير من موقعٍ أفضل في “مفاوضات” عملية الانتخابات الرئاسية التي عادةً ما تخضع لتفاعلاتٍ بين العاملين الداخلي والخارجي. تاثيرُ الأخير كان دائمًا فاعلًا بأشكالٍ ودرجاتٍ مُختلفة في معظم هذه الانتخابات، ولا غرابة في هذا الأمر طالما أن عُنصرَ الاصطفافات والعلاقات مع “الخارج” كان دائمًا ذا ثقلٍ مؤثِّرٍ في السياسة والاصطفافات الداخلية ولو اختلفت أوزان هذا العنصر بين مرحلةٍ وأُخرى.

رياحُ السياسات في الإقليم حاليًّا تتراوح بين التصعيد والتوتّرات من جهة، وبين مُؤشّراتٍ ما زالت خجولة نحو الذهاب باتجاه التهدئة وحصول تفاهماتِ الحدّ الادنى من جهة اخرى. تفاهماتٌ بين الأطراف الخارجية  الفاعلة في مرحلةٍ مُعَيَّنة، عادةً ما تُساهِمُ بشكلٍ أساس في حصول التفاهمات اللبنانية الضرورية للتعاطي بنجاحٍ مع الاستحقاقات المطروحة.

لكن طبيعة وخطورة الأزمة اللبنانية الداخلية هذه المرة، لم تعد تكفيها الحلول التي تقوم على توفير “المراهم”. فبقدر ما هو العنصر الخارجي ضروريٌّ ومُسَهِّلٌ للتوصّل إلى الحلول، بقدر ما إن المطلوب هو المعالجة “الجراحية”  الشاملة هذه المرة، ولو جرت هذه الأخيرة بشكلٍ تدرّجي لإنقاذِ “المريض اللبناني” من الموت ونحن نشهد النزيف (بخاصة البشري الشبابي والاختصاصي) الذي يعيشه لبنان. وللتذكير فإن الأزمةَ المالية الحادّة التي هي نتيجةٌ لأزمةٍ اقتصادية هي في حقيقة الأمر أزمة نموذج اقتصادي وإدارة اقتصادية. والأزمةُ الاقتصادية هي بدورها نتيجةٌ لأزمةِ نظامٍ سياسي قائمٍ على الزبائنية وعلى نوعٍ من فيدرالية من المذهبيات السياسية التي تُغذّي وتتغذّى على هذا النظام.

المطلوبُ اليوم “إنتاج” تفاهمٍ يُشجّعه اصدقاء لبنان لتشكيلِ حكومةٍ مُهمّتها الأساسية العمل على “وقف النزيف”. حكومةُ هدنة، يُمكنُ أن تكونَ مُصغّرة وبمثابةِ فريقِ عملٍ، تعمل على البدء بتنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي وتطوير أو تحسين ما يمكن القيام به في هذا المجال. المطلوب اليوم أيضًا الدفع، من قبل كلِّ الأطراف المُؤثّرة، لاحترام الاستحقاق الدستوري بانتخاب رئيس جديد للبنان. وتكون في طليعة مهمات السلطة السياسية الجديدة عقد طاولة حوار وطني على أساسِ خريطةِ طريقٍ موضوعية وزمنية لإجراءِ “جراحة” الانقاذ المطلوبة، وقوامها عملية إصلاح شامل. إصلاحٌ يتناول كافة أبعاد الحياة الوطنية وبشكلٍ خاص الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

إنقاذُ الوطن مسؤولية جماعية، أياًّ كان ميزان القوى السياسي في لحظةٍ مُعيَّنة، وأيًّا كانت العناوين السياسية التي يحملها هذا الطرف أو ذاك، فإذا، لا سمح الله، غرق المركب، فباسم مَن وعلى ماذا ستتقاتلون؟

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى