وَطَنُ الإعتياد

راشد فايد*

لبنان بَلَدُ العاداتِ المُتَسَلِّلة إلى ايقاعِ الحياة اليومية فيه بقوّة التكرار. الأمثلةُ ليست ما ينقص: أُعدِمَت الكهرباء تمامًا بعدما تسرّبت العتمة الى مَفاصِلها في كل أنحاء البلاد، ولم يأسف عليها سوى العاجزين عن مُعانقة فرانكلين دي روزفلت، وحبسه في جيوبهم. ظهرت المُولّدات في حياء، ثم باتت هي معامل إنتاج الكهرباء، وبعدما كانت شكوى الناس من ضجيجها جهارًا، صار القلق من توقّفها أعظم، وصار هذا الضجيج ايقاعًا مُستَحَبًّا.

قبل ذلك امتدّت “الكابلات” الفضائية عابرة أسطح الأبنية، ولم تنفع ضدها شكاوى أصحاب الأخيرة، ولا دعاوى شركات البث الفضائي، إلى أن سَلَّمَ الجميع بالأمر الواقع، وصار التعدّي على حقوق الآخر، من طبيعة الحياة العامة، ومُسَلَّماتها.

خلت الأنابيب من مياه الدولة، بينما كانت الصهاريج تُبلِّلُ أيامنا وليالينا بمياهٍ تجلبها من خزّانات هذه الدولة، وحين دخل اللبنانيون في تقشّفٍ غذائي، وبات الرغيف أخفّ من وزن الريشة، صار المواطن يأكل الهواء أكثر مما يأكل الخبز.

لا يقف الإعتياد عند هذه الأمور. فجارُكَ يُصادِرُ الرصيف، عند مبنى سكنك، ليوقف سيارته وسيارة زوجته، وربما سيارة نجله، فتعترض يومًا، وتصمت عليه أيامًا، حتى تعتاد وتٌسَلِّمُ أمرك لله، لاعتقادك أنه لو لم يكن “مدعومًا” لما تجرّأ على ذلك. أما نائبك فيصادر قرارك برضاك عن وعده لك بحمل مطالبك إلى مبنى البرلمان، وهو اعتاد أن ينساك، وانت اعتدت التفاؤل الكاذب كل 4 سنوات، إذا انعقدت الإنتخابات، فتتأبط ما فيه لك نصيب لزوم “تسهيل” دخولك قلم الإقتراع.

هذا الوجه ليس بوزن الترويج لخلوِّ الموقع الرئاسي، أو تمديد إقامة الرئيس ميشال عون في بعبدا. لا أحد يستهجن هذا الإعتداء المبيت على الدستور، تمامًا كما لم يستهجن، إلّا قلة، استخفاف الرئيس الحالي بالدستور حين أجرى استشارات نيابية، من وراء ظهر الرئيس المكلف.

ابتدع الإستخفاف بالدستور بعد “اتفاق الطائف”، وجرى لَيّ رقبته مرتين ليناسب استراتيجية الأسد الأب: أولى بالتمديد للرئيس الراحل الياس الهراوي، مُرفقًا بالتمديد لقائد الجيش إميل لحود، والثانية بالتمديد لقائد الجيش نفسه بعدما رُقّي إلى رئاسة الجمهورية.

بدأ الحديث عن التمديد ثم الفراغ بصوتٍ خافت، ثم صار من الإحتمالات المُسَلَّم بها، حتى بدا الكلام على عزم الرئيس على ترك القصر الجمهوري في أول دقيقة من نهاية ولايته، أقرب إلى دخانِ تَعمِية. هل ذلك لتمويه الأزمات الإجتماعية التي يعيشها اللبنانيون؟ أم أن اللاعبين أقل ذكاء من ذلك؟

لفتة: ينتخب الأميركيون رئيسا لبلادهم كل 4 سنوات، وعدد المتوالين على المنصب مع الحالي جو بايدن 46، وقد تسلّموا جميعًا المنصب منذ العام 1797 في الرابع من آذار/ مارس، يوم تسلم الرئاسة جون آدامز بعد ولايتين للمؤسس جورج واشنطن، بدأتا في 30 نيسان /إبريل 1789، ثم صار التاريخ الثابت 20 كانون الثاني  مع وصول دوايت أيزنهاور إلى البيت الأبيض، إلّا ندرة منهم، تولّت المسؤولية من خارج هذين الإيقاعين بسبب الوفاة أو الإستقالة، أو الحروب.

من أكثر من 230 سنة، ومع أكثر من 46 رئيساً لم نسمع عن أميركا قلقًا من فراغ في رأس السلطة، ولم نسمع عن غيرها من الدول – الدول، لأنها تحترم دستورها والقوانين والتقاليد الديموقراطية. كما لم نسمع سوى في لبنان عن رئيسٍ أتى على أكفِّ ميليشيا وسلاحها، وهو يؤكد حرصه على الدستور.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى