“جميل وبُثَيْنة” في رؤية كَرَكَلَّا

جميل وبُثَيْنَة (سامر اسماعيل وأَمل بو شوشة)

هنري زغيب*

الذي يحمل في ذاكرة  أَعماله أَكثرَ من نصف قرن (1968-2022) شهاداتٍ عالَميةً ساطعةً في الذاكرة، بينها “مسرح كركلَّا يكسفُ ما اعتادَ مسرح “كينيدي سنتر” أَن يقدِّمه” (“الواشنطن بوست” – 2 آذار/مارس  2009)، وقبْلَها: “مسرح كركلَّا تخطَّى مسرح موريس بيجار” (“الصنداي تلغراف” – لندن – 16 شباط/فبراير 2003)، ها هو اليوم يحمل إِلى المملكة العربية السعودية عملَه الجديد: “جميل وبُثَيْنة” (مسرح جامعة الأَميرة نُورَة – الرياض، خمسة عروض حتى الثلثاء 14 الجاري).

عبدالحليم كركلَّا منذُورٌ لاثنَين: النجاح المتواصل، وصورة لبنان الإِبداع في العالم.

في مشهدية حاكَها من 92 مغنيًا وممثلًا، بينهم رقصًا من لبنان وسوريا والسعودية والصين والجزائر وبوليفيا والأَرجنتين وأُوكرانيا، حَكَاها من قلب الأَدب العربي في العصر الأُموي قصةَ “الحب الممنوع” بين جميل بن معمَّر (659-701) وبُثينة بنت حيَّان في وادي القُرى (اليوم: في محافظة العُلا السعودية بين تيماء وخيبر، وحدَّده ياقوت الحموي واديًا “بين الشام والمدينة الـمُنَوَّرة).

بقي كركلَّا أَمينًا لِـحَرفية التاريخ: في “وادي بَغيض” كان جميل (سامر اسماعيل-سوريا) يرعى إِبله فجاءت بُثَيْنة (أَمل بو شوشة-الجزائر) ونَفَّرَت إِبله. ثار عليها فانتفَضَت. وكان بينهما نُفورٌ انفعاليّ لكنه أَشعل في قلبهما شرارةَ حبٍّ وميضة:

وأَوَّلُ ما قاد المودَّة بيننا                    بــ”وادي بَغيضٍ” يا بُثَينَ سِبابُ

وقلنا لها قولًا فجاءت بمثله               لكل كلامٍ يا بُثَينَ جوابُ  

كان لتلك اللُقيا ارتدادُها في أَرجاء قبيلته (بني عُذرة)، ما سبَّب غضبَ أَهل بُثَيْنة وقرارَ والدها (جوزف عازار) تزويجها قسْرًا من نُــبَــيْــه ابن الأَحَبّ (سيمون عبَيد). تفاقم الخطر على جميل، فرجاه والده (عبدالناصر الزائر-السعودية) أَن يُغادر القبيلة ففعل، وهام بعيدًا يحمل في قلبه العاشق نار حبِّه العُذريّ وَلَعًا ووَلَهًا وشَغَفًا، وبلغ بلاد الشام في بلاط الخليفة عبدالملك بن مروان (أَلِكُّو داود) الذي اجتمع لديه بالمثلَّث الأُموي (جرير، الفرزدق، الأَخطل). لكنه لم يشأْ تلبية دعوة الخليفة البقاء في بلاطه، فهامَ من جديد حتى بلغ مصر ومات فيها عن 42 عامًا.

سوى أَن عبدالحليم كركلَّا لم يجعل السرد مُسَطَّح الأَحداث فأَنشأَ له خيطًا روائيًّا بإِطلاعه شخصية الراوي (غبريال يمين) يستضيف في متحفٍ عالَميٍّ طلابًا وطالباتٍ يروحُ يشرح لهم فُصولًا من قصص الحب في كتاب التاريخ حتى وصل إِلى “أُسطورة العشق في واحة العُلا”، وعاد بهم استعاديًّا إِلى الزمن الأُموي فدارت على المسرح أَحداث الرواية.

هذا العمل الجديد يحمل، كالعادة، نسيج عبدالحليم كركلَّا للسيناريو الـمُحْكَم الحبكة، والحوار المقطوف من الحدَث التاريخي، والسينوغرافيا الباهرة الأَلَق أَزياءَ جميلةً جدًّا ذاتَ أَلوان ناطقة بتشكيلات متزاوجة متجانبة متخاصرة متناسقة ديكورًا وإِضاءةً وخلفيَّاتٍ موازيةً على الشاشة الكبيرة في صدر الخشبة جعلَت العمل ذا فضاءَين: الأَول مسرحيٌّ إِحاديُّ البُعد، والآخرُ سينمائيٌّ مثلَّثُ الأَبعاد يُكمل بصريًّا ما لا تتَّسِع له مساحةُ الخشبة، فيتحوَّل المدى المسرحي إِلى تقطيع تلڤزيو-سينمائي مبتكَر، برزت فيه طاقة إِيڤان كركلَّا الإِخراجية العالية، واسعةَ الإِيحاء بالجوّ العربي الذي تنهل منه المسرحية تفاصيلها وثنايا أَحداثها، فيتنقَّل المكان تَواليًا بين ديكور واقعي (على الخشبة) وآخر افتراضي (على الشاشة) ليَمنح الجمهور فسحةَ خيال ملونةً تُدخل في ذائقته الفنية لمعاتٍ من جمال.

تنبض المسرحية طيلة الوقت (نحو 110 دقائق) بإِيقاعَين: موسيقى عبدالحليم كركلَّا (إِعدادًا، وإِشراف محمد رضا عليغولي) لا تتوقف ميلودياها أَنغامًا متلاحقةً طوال العرض فترسم بالنوطة أَجواء الأَحداث في المسرحية، والإِيقاع الآخر كوريغرافيا أليسار كركلَّا التي تَبهر المشاهدين بخطوات ماتيماتيكية دقيقة الوقْع نسجَتْها في خطوة دينامية كل 9 ثوانٍ (نحو 6 خطوات في الدقيقة الواحدة) ما يرفع دينامية المشهدية إِلى مئات الخطوات على مدى المسرحية.

وبين حضورها والدةَ بُثَيْنَة في التاريخ (الفصل الأَول) وعودتها الأُخرى في الحاضر (ختام الفصل الثاني)، سطعَت ضيفةُ الشرف في هذا العمل السيِّدة هدى حداد، المكرَّسَة الرحبانيَّة غناءً وتمثيلًا، بصوتها البنفسجيّ الذي يعطي المسرحية مذاقًا جماليًّا آخر.

سوى أَن كلَّ هذا الأَعلاه، هو ثمرة “المايسترو” عبدالحليم كركلَّا بإِشرافه العام على كل فاصلة موسيقية وأَدائية وكوريغرافية في العمل، مُمسكًا بقيادتِهِ في حزْم وعزْم، ما يحقِّقُ الصورة التي منحه إِياها صديقُه سعيد عقل بأَنه “ذو قدرة على تحويل الأَجساد إِلى عبارات كتابية ذاتِ شَرَر، في مضمون لا يُشبه سُطُوعَه سوى بيت الشِعر”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى