مصر: الدُيونُ الخارجية والاستيلاء على الموارد العامة قد يؤدّيان إلى كوارث مالية واقتصادية

لسنواتٍ أسهمت مُعدّلات النمو الاقتصادي في إخفاءِ عُيوبِ النظام الرأسمالي الذي تتبنّاه مصر. لكن النظامَ المُرتَكِز على الاستثمارات الحكومية وعلى التمييز ضد القطاع الخاص يُحاصِر الاقتصاد في دائرة الفقر والدَين ويُمهّد لأزمةٍ اقتصادية طاحنة.

الرئيس عبد الفتاح السيسي: مشاريعه الكبرى لم تؤدِّ بعد إلى النتيجة المرجوة

ماجد مندور*

أشرَفَ البنك المركزي المصري في 21 آذار/مارس 2021، على تخفيض سعر الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي بنحو 14 في المئة. وفي اليوم التالي، في خضم تكهّناتٍ عن اعتزام الحكومة المصرية طلب قرضٍ جديد من صندوق النقد الدولي، انخفض الجنيه مُجَدَّدَا بمقدار نقطة مئوية كاملة. وأعلن طارق عامر، محافظ البنك المركزي، أن الحركة في سعر الصرف كانت “عملية تصحيح” ضرورية في ضوء المُستَجِدّات المحلية والدولية – في إشارة واضحة إلى الحرب الدائرة في أوكرانيا- وأن هذا التخفيض سيؤدي بالضرورة إلى تحسّن أداء الصادرات.

الحقيقة أن هذه التصريحات الرسمية تتجاهل الدينامية المحورية لرأسمالية الدولة المصرية التي تتبع نمطًا تنمويًا لا يُساعِدُ على زيادة الطلب المحلي أو على نمو الصادرات، بل هو نمطٌ طالما اتّسم بضعفِ القطاع الخاص والعجز عن رفع القدرة التنافسية للاقتصاد المصري، ولم يؤدِّ إلّا إلى مُفاقَمة الفقر المُتَجَذّر.

في ظلِّ غيابِ أُسُسٍ اقتصادية قوية، فإن هذا النمط – الذي يعتمد على الديون الخارجية الضخمة وعلى الاستيلاء على الموارد العامة لتغذية عجلة النمو الاقتصادي – من المُحَتَّم أن يؤدي إلى كوارث مالية واقتصادية. وقد اعتادت الحكومة المصرية في السابق على زيادة معدلات النمو الاقتصادي من طريق الاستثمارات العامة الضخمة خصوصًا في قطاعات البنية التحتية. على سبيل المثال، إرتفع معدل النمو الاقتصادي من 2.18 في المئة في العام 2013، ليصل إلى 5.5 في المئة في العام 2019. ومع بداية جائحة كوفيد-19 في 2020، لم تتجاوز معدلات الانخفاض أكثر من 3.5 في المئة فقط.

وقد تزامنت مُعدّلات النمو الاقتصادي تلك مع انخفاضٍ كبيرٍ في نسبة العجز المالي التي انخفضت من سالب 12.9 في المئة من نسبة الناتح المحلي الإجمالي في العام 2013، إلى سالب 7.8 في المئة في العام 2020. ووفقًا لمَرجَعيّاتِ الليبرالية الاقتصادية الحديثة فإن هذا الانخفاض، الذي يرمز إلى تراجع تدخُّل الدولة في الاقتصاد، كان من المفترض أن يُحفّزَ دور القطاع الخاص ويساعده على النمو خصوصًا مع تدنّي مستويات البطالة من 13.15 في المئة في العام 2013 إلى 7.4 في المئة في العام 2021. لكن نظرةً فاحِصةً تكشف أن هذا النمو استند حصريًا إلى استثمارات الدولة التي يُهَيمِنُ عليها الجيش والتي صاحبها انكماشٌ في السوق المحلية وتدهورٌ في الأوضاع الخارجية وضعفٌ في القطاع الخاص.

تَنعَكِسُ إخفاقاتُ نمطِ الاقتصاد المصري بوضوح في مساراتِ السوق المحلية وأداء القطاع الخاص. فعلى سبيل المثال يُشيرُ تقريرٌ صدر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في أيار/ مايو 2019، أن معدّلات استهلاك الأُسرة المصرية على مستوى الجمهورية قد انخفضت بنسبة مقدارها 9.7 في المئة –وتزيد هذه النسبة في المناطق الحضرية لتصل إلى 13.7 في المئة– في الفترة ما بين 2015 و2018. رافق هذا الانخفاض ارتفاعٌ كبيرٌ في معدّلات الفقر التي تزايدت من 27.8 في المئة في 2015، لتصل إلى 32.5 في المئة في 2018. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2021، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن انخفاض معدلات الفقر من 32.5 في المئة إلى 29.7 في المئة وهو انخفاض كان حَريًّا به أن يُعزّزَ الطلب المحلي خصوصًا في ظلِّ انخفاض معدّلات البطالة، ولكن تقريرًا تفصيليًّا صدر في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه أظهر انخفاضًا إضافيًا بمعدل 1.8 في المئة في مستوى الاستهلاك المحلي للأُسرة. وتُشيرُ هذه النتائج التي تبدو مُتناقضة إلى أن الأجور التي تُقدِّمها الوظائف المُستَحدَثة في سوق العمل المصرية لا تتناسب مع معدّلات التضخّم الهائلة، وبالتالي فهي غير قادرة على مُواكبة تكاليف المعيشة.

هذا الانكماش في السوق المحلية لم يتوازن نتيجةً لتحسّن أداء الصادرات، فعلى سبيل المثال قفز عجز الحساب الجاري المصري من سالب 2.2 في المئة في 2013، إلى سالب 4.6 في المئة في 2021، مُسَجِّلًا أدنى مستوياته في العام 2017، بمعدل سالب 6.1 في المئة، وهو – للمفارقة – العام الذي تلا إعلان الحكومة عن أوّلِ تعويمٍ للجنيه المصري الذي أفقده نصف قيمته.

علاوةً على ذلك، فإن ضعفَ أداء الصادرات وانكماشَ السوقِ المحلية معًا يُشيران إلى الضعف الذي اعترى القطاع الخاص المصري على مدى سنوات عديدة. والحقيقة أن القطاع الخاص، بدءًا من آذار/مارس 2022، يعاني من أعراض النمو السلبي وهي أعراضٌ استمرّت لمدة خمسة عشر شهرًا مُتتاليًا ما أدّى إلى تدنّي الثقة في قطاع الأعمال إلى أقلّ مستوياتها منذ عشر سنين وهي علامة على استمرار الاضطرابات الاقتصادية.

وهكذا يتضح أن القطاع الخاص لم يكن أحد العوامل الدافعة للاقتصاد، بل إن الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية التي تقودها المؤسسة العسكرية والتي بلغت، بحسب تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، نحو 200 مليار دولار أميركي بين العامين 2014 و2019، كانت هي العامل الأساس في ما شهده الاقتصاد من نمو.

تَشوبُ السياسة الاقتصادية التي تنتهجها الدولة المصرية شائبتان رئيستان، أولاهما هي مصادر تمويل الاستثمارات الحكومية والثانية هي قيمة عوائد تلك الاستثمارات. أما من حيث مصادر التمويل، فقد قامت هذه الاستثمارات على الديون التي كانت تُمثّل نحو 80 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2013، وتصاعدت لتصل إلى 88 في المئة من إجمالي هذا الناتج في 2020، في أعقاب طفرة رفعتها إلى 103 في المئة في العام 2017. والحقيقة أن الخطر لا يكمن فقط في ضخامة حجم هذه الديون، بل أيضًا في اسعار الفائدة التي تعرضها السلطات المُختَصّة لجَذبِ الاستثمارات والتي تُعتَبَر الأعلى على مستوى العالم. تضع هذه الفوائد الكبيرة عبئًا ثقيلًا على موازنة الدولة التي خصّصت ما يقارب من 31.5 في المئة  من مداخيلها في العامين 2021 و2022 لخدمة هذه الديون.

بالطبع، تتحمّل الطبقتان الوسطى والفقيرة تكاليف خدمة هذه الديون خصوصًا مع انخفاض الإنفاق الحكومي الذي تدنّى من 11.35 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2013، إلى 7.92 في المئة في 2020، ما أدّى إلى ضعف الطلب المحلي وزيادة معدّلات الفقر.

المشكلة الأُخرى في قضية الديون هي أن ربع القيمة الإجمالية لأعباء الديون – تقريبًا تُحسَب بالعملات الأجنبية ما يجعل الاقتصاد عرضةً للصدمات المفاجئة التي قد تتعرّض لها تلك العملات في حال قرّر المستثمرون الانسحاب من سوق الديون بسبب أيِّ تطورات على الساحة الدولية، وعلى سبيل المثال أدّت الحرب في أوكرانيا إلى انسحاب ما يقارب من 3 مليارات دولار أميركي من الأسواق العالمية.

المشكلة الأخرى للنمط الاقتصادي المصري هي مقدار العوائد المُتَوَقَّعة من حُمى الاستثمارات الحكومية الضخمة. والحقيقة أن هذه العوائد حتى الآن تبدو مُبهَمة، ولعلّ أوضح الأمثلة على هذا هو قناة السويس الجديدة التي أٌنشِئت باستثمارات بلغت قيمتها التقريبية 8 مليارات دولار أميركي ولم تُحقّق سوى زيادة متواضعة في الإيرادات لم تتجاوز 4.7 في المئة على مدى خمس سنوات. أما المشاريع الكبرى الأخرى، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، والتي تُقدّر موازنتها بنحو 58 مليار دولار أميركي، فلم تُحقّق بعد أي عوائد ملموسة.

بالإضافة إلى كلِّ ما سبق من مؤشّرات مُقلقة، تُوجَد أدلّة كبيرة على أن الحكومة تُمارِسُ أساليب الضغط والإكراه على القطاع الخاص لتَضمَن التخلّص من أيِّ مُنافَسة في السوق المحلية. وأَوضَحُ الأمثلة على تلك الممارسات هو اعتقال صفوان ثابت وولده سيف وهما يملكان واحدة من أكبر شركات المنتجات الاستهلاكية في البلاد بتُهَمٍ مُتعلّقة بالإرهاب. أما السبب الحقيقي وراء الاعتقال فهو رفض صفوان وسيف التخلّي عن أصولِ شركة جهينة للألبان -المعروفة في مصر- لصالح الحكومة التي صادف أنها كانت تُزمِعُ إطلاقَ علامتها التجارية الخاصة بالألبان. وما استخدام أساليب القمع والقسر مع صفوات ثابت ما هو إلّا مثالٌ واحد على سياسةٍ مُمَنهجةٍ للتدخّل الحكومي ضد القطاع الخاص ولصالح المؤسسات التجارية المملوكة للجيش.

هكذا نرى أن ما يحدث على الساحة الدولية –على الرغم من كونه عاملًا مُساهِمًا- ليس هو السبب الحقيقي وراء الأزمة المالية المُتفاقِمة في مصر، بل إن هذه الأزمة هي نتاجُ مشاكل محورية تتعلّق بنمط الرأسمالية العسكرية المُتحكّمة في الاقتصاد المصري. بالنظر إلى ما وقع من أحداث بدءًا من تعويم العملة المصرية في العام 2016 وحتى الآن، يمكننا أن نتوقّع أن التعويمَ الأخير لن يضع مصر في مكانةٍ دولية تنافسية، بل على العكس من المرجح أن يؤدي هذا الخفض الجديد في قيمة العملة إلى إضعاف الطلب المحلي بسبب موجة التضخّم التي من المُرجّح أن تتبعه.

الحقيقة أن التضخّم الذي تصاعد بالفعل ليصل إلى 12.1 في المئة في آذار/ مارس، سيؤثر تأثيرًا كبيرًا في الطبقات المتوسطة والفقيرة وسيُعمّق ضعف الطلب المحلي ما سيدفع الدولة الغارقة في متاهات هذه الدائرة المفرغة إلى التورّط في مزيدٍ من الديون. وتشير تقديرات وكالة التصنيف الدولية “ستاندارد أند بورز” إلى أن مصرستتفوَّق قريبًا على تركيا لتصبح أكبر مورد للديون السيادية في الأسواق الناشئة في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا بإجمالي تقديري يصل إلى 73 مليار دولار أميركي في 2022. ستضع معدلات الاستدانة الفلكية هذه المزيد من الضغوط على موازنة الدولة ما سيؤدي إلى مزيد من الخفض في الإنفاق الحكومي الاجتماعي وتزايد معدلات الفقر.

في محاولةٍ للاستجابة لهذه الأزمة المُتفاقِمة وتعزيز تدفّق العملات الصعبة، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نيّة الحكومة مُشاركة القطاع الخاص في الأصول المملوكة للدولة، وذلك بمستهدفات تبلغ 10 مليارات دولار سنويًا لمدة 4 سنوات، بغرض تدبير 40 مليار دولار لتعزيز احتياطي البلاد من العملة الأجنبية. وتقترن هذه الخطة بدعمٍ مالي من الخليج يتضمّن وديعة قيمتها 5 مليارات دولار أميركي تُقدمها السعودية واستثمارات قيمتها 2 ملياري دولار تقدمها الإمارات، بالإضافة إلى تعهّدٍ من قطر باستثمارات قيمتها 5 مليارات دولار. رُغم ذلك، فإن الواقعَ يُخبرُنا أن كل هذه الخطط ما هي إلّا حلولٌ قصيرة المدى لمشكلةٍ جذرية خلقها الشكل الرأسمالي للدولة المصرية، وبالتالي يجب أن تكون الحلول المطروحة للأزمة الاقتصادية المصرية حلولًا جذرية أيضًا.

لذلك ينبغي البدء بإعادة هيكلة السياسات الاقتصادية للدولة من خلال تغييرات واسعة النطاق في النظام السياسي من شأنها أن تتخلّصَ من النموذج الحالي للرأسمالية العسكرية وتُتيحَ المجال لسيطرة الاقتصاد المدني – وهو احتمالٌ غير مُرجَّح. وبناء على ذلك فإن مصر، في المستقبل المنظور، ستظل حبيسة حلقة اقتصادية مفرغة -ترعاها الدولة– تضرّ بشكلٍ كبير بمصالح الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

  • ماجد مندور هو محلل سياسي وكاتب عمود “سجلات الثورة العربية” لدى موقع “أوبن ديموكراسي” في المملكة المتحدة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @MagedMandour

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى