لبنان: الحِوارُ أو الانهِيارُ

الدكتور ناصيف حتّي*

نُذَكِّرُ، ونَحنُ على مُفتَرَقِ طُرُق، بين ضَرورةِ الخروجِ من النَفَقِ الذي وضعنا نَفسَنا فيه، وهي مسؤولِيّةُ كافة المُكَوِّنات السياسية اللبنانية ولو بدرجاتٍ مُتفاوتة وفي أوقاتٍ مُختلفة وبأشكالٍ مُتَعَدِّدة، وبين الاستمرارِ على الطريق السريع الذي يؤدّي بنا إلى الانهيار. نُذَكِّرُ مَن لا يُريدُ أن يتذكّر أو أن يَذكُرَ، وكأنّه يعيشُ في حالةٍ من الإنكار، أنّ لبنان بحاجةٍ إلى مُقارَبةٍ جديدةٍ ومُختلفةٍ عمّا جرى ويجري. مُقارَبَةٌ تُشَكِّلُ قطيعةً مع اللُعبة السياسية التي طَبَعَت حياتَنا الوطنية: لُعبةٌ راوَحَت بين الصِدامِ المُكلِفِ والمُنهِكِ تحتَ عناوين كبيرة ورهاناتٍ على موازينِ قوى يَرتَبِطُ بها الداخلي بالخارجي، وما يحمله هذا  الصِدامُ من جمودٍ قاتلٍ ومُدَمِّرٍ في المرحلة الراهنة، وهي مرحلة حرجة جدًا، وبين التفاهُمِ الهَشِّ أو الشَكلي، كما شاهدنا في تجارب ماضية. تفاهُمٌ قد يأتي تحت عناوين وتبريراتٍ مختلفة، من نوعِ حكومةِ “وفاقٍ وطني”، من دون أيِّ مَضمونٍ فعليٍّ يستند إليه. حكومةٌ تُهذِّبُ الصراعَ وتُقيِّده بعض الشيء باسم مَصلَحَةِ الشراكة في السلطة، وتؤدّي في أفضلِ الحالات إلى احتواءِ درجةِ التوتّرِ بين الشُرَكاءِ في السلطة لمصلحةِ الجمود، مع بعض المراهم لتحسين صورة هذا الجمود على حسابِ العمل والإنجاز. وللتَذكيرِ أيضًا فإن احتواءَ التوتّرِ قد يكون مُوقَّتًا إذ تحكمه ظروفٌ تُسقِطُ هذا الاحتواء عندما  تَتَغَيّر، ما يُعيدُنا إلى المربع الأول، والأمثلة على ذلك غير قليلة.

هذه “اللُعبة التقليدية” التي طبعت الحياة السياسية في لبنان لم يعد من الممكن الاستمرار بها.

اليوم، العناصر التي تؤدي إلى الانفجار  الكبير في تزايدٍ وتصاعدٍ في حدّتها ووزنها، ما يصعب تلافي تداعياتها “التدميرية”. وعلى صعيد الإقليم الشرق أوسطي، ونحنُ الأكثر تأثّرًا بما تحمله رياحه، فهناكَ ثلاثُ نقاطٍ ساخنة (التأزّم في المفاوضات النووية، ازدياد حدّة العدوان الإسرائيلي على الأماكن المُقدّسة في القدس، وتلويح أنقرة بإقامةِ “منطقةٍ آمنة” داخل سوريا مُحاذية للحدود التركية-السورية) تُحاصِرُ لبنان تزداد سخونتها. وإذا ما انفجرت إحداها أو كلّها فستكونُ لها تداعياتٌ كبرى مباشرة أو غير مباشرة على سرعة الخروج من النفق.

الحالةُ الرمادية في الإقليم بين سيناريوهات التفاوُضِ والهدنة والتفاهُمات من جهة، والمُواجهة بالوكالة وزيادة تسخين بعض النقاط الساخنة والمأزومة لتعزيز الموقع التفاوضي عندما تحلّ لحظة التفاوض من جهةٍ أخرى، ومن ضمن اوراق التفاوض بالطبع لبنان المحافظ دائمًا على وظيفته كصندوقِ بريدٍ في صراعاتِ الإقليم وحول الإقليم، تستدعي مُقاربةً لبنانيةً مُختلفة. فالانتظارُ يُوَفِّرُ أسرعَ طريقٍ للانفجار.

في خضمِّ الصراعِ القائمِ والواضحِ بشأنِ أيِّ حكومةٍ يجب تَشكيلُها، وهل تكون حكومة سياسية أو تكنوقراطية أو تكنوسياسية باعتبارِ ان البعضَ يرى من الضروري مشاركته مباشرة بالسلطة كصاحبِ قرارٍ سياسي وليس مُمَثَّلًا بوجوٍه تكنوقراطية كون الحكومة التي ستُشَكَّل، هذا إذا ما شُكِّلَت، ستتولّى السلطة التنفيذية وحدها إذا لم يَتِمّ انتخابُ رئيسٍ جديدٍ للجمهورية في المهلة الدستورية المعروفة. يجري ذلك مع تزايد الاجتهادات الدستورية من قبل البعض في هذا الشأن، الأمر الذي يزيد من الإرباكات الحاصلة.

المَطلوبُ اليوم، والوقتُ ضاغِطٌ، تأجيلُ البحث في الإصلاحات الدستورية المطلوبة والضرورية، ولو أنه لا يوجَدُ اتفاقٌ حولها: مثل البناء على “اتفاق الطائف” وقد لحظ النص ذلك. ويتعلّق الموضوع الخلافي بحجم عملية البدء بالإصلاح وسرعته وكذلك بتوقيته. ويتطلّع البعض، كما أشرنا أكثر من مرة، إلى ضرورةِ عقدِ مؤتمرٍ تأسيسي جديد، لنسف “اتفاق الطائف”، الذي يعني الذهاب نحو المجهول مع التأكيد على ضرورة التطوير ولكن ابتداء من “الطائف”.

ورُغمَ أهمّية وضرورة الإصلاح الشامل والعميق، فإن الأولَوِيّة اليوم يجب ان تذهب نحو وقف النزيف الاقتصادي، المالي والاجتماعي الذي سيؤدي، إذا ما استمر، إلى الانهيار الكامل. ويكون ذلك من خلال تشكيلِ حكومةٍ أصِفُها بحكومةِ هدنةٍ وطنية وليس حكومة وحدة وطنية. فالأخيرة في الظروف التي نعيشها ونعرفها لن تَملُكَ من المعنى إلّا الإسم. علينا الإعتراف بالخلافات الكبيرة والعميقة القائمة والتي تزيد من تعقيداتها الصراعات في الإقليم والاصطفافات اللبنانية في هذا المجال والتي بدورها تزيدُ من حدّة التأثيرِ الخارجي. المطلوب مُشاركة الجميع، جميع المُكوّنات السياسية، في حكومةِ الهدنة الوطنية التي يجب ان تقوم على برنامجٍ إنقاذي تلتزمُ به الأطرافُ المُشارِكة بعدما تتفق عليه في حوارٍ عَمَلي وليس شعاراتي، لوقف النزيف والبدء بالخروج من النفق. ومن أهم الأمور في هذا الإطار احترام الاستحقاقات الدستورية. فانتظارُ التوافقات الخارجية وما تَستَقرُّ عليه من توازنٍ مُعَيَّنٍ في لحظةٍ مُعَيَّنة، لن ينفع المراهنون على ذلك، إلى أيِّ فئة انتموا.

إن وَقفَ النزيف وإنقاذ “المركب” اللبناني من الغرق أمرٌ أكثر من مُلِحّ وضروري، فلُعبةُ الوقت بانتظارِ تَغيّرِ الموازين الحاكمة للوضع اللبناني ليست لمصلحةِ أحد، فلا مُنتَصِرٌ إذا ما غرق المركب لا سمح الله. والركّابُ كافة عليهم المسؤولية الأوّلية للإنقاذ. وبعدها ياتي دور المساعدة من الخارج، وتلك المساعدة أكثر من ضرورية ولكنها غير كافية إذا لم نأخذ زمام المبادرة. ثم ياتي وقتُ  البحثِ في كيفيّةِ مَدِّ المركب بالحماية أو بالمناعة الضرورية (عبر إصلاحاتٍ شاملة تدريجية تتناول مُختَلَفَ أوجه الحياة الوطنية ولم يعد من الممكن تلافيها). المناعة التي تسمح للوطن بمواجهة الأعاصير متى حدثت ومن أيِّ مكانٍ أتت.

ليس الوقتُ اليوم للتقاتل حول عناوين كبرى، فلن يبقى وَطَنٌ إذا ما استمرّينا في لعبة التسويف والانتظار لوضعها موضع التنفيذ. أَنقِذوا الوطن “وتقاتلوا” بعدها ولكن تحت سقف الدولة على كيفية إدارته.

ولنتذكّر الحكمة التي تقول: إن رحلةَ الألف ميل تبدأ بخطوة.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان الأسبق. كان سابقًا المتحدّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، ومندوبها الدائم لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى