المُحتَجّون في إيران لم يثوروا بسببِ أسعارِ الغذاء فقط بل لأسبابٍ أُخرى تُهَدِّدُ النظام!

فيما بدأت الاحتجاجات الأخيرة في إيران بسبب التضخّم وارتفاع المواد الغذائية، فقد تحوّلت إلى مظاهرات ضد النظام.

المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي والرئيس ابراهيم رئيسي: الاحتجاجات تضعهما في مأزق.

هشام الجعفري*

منذ أوائل أيار (مايو)، تهزُّ إيران إحتجاجاتٌ شعبية واسعة على الارتفاع السريع في أسعار المواد الغذائية الناتج عن قرار الحكومة بخفض الدعم الحالي للمنتجات الغذائية. منذ ذلك الحين، إرتفعت الأسعار بشكلٍ كبير، وخصوصًا أسعار السلع الأساسية مثل القمح المُستَورَد بنسبة تصل إلى 300 في المئة وزيت الطهي بما يقرب من 400 في المئة. في غضون أيام، انتشرت الاحتجاجات، التي اندلعت في وقت واحد تقريبًا في شمال وشرق ووسط إيران، في جميع أنحاء البلاد، ووصلت في النهاية إلى العاصمة طهران، حيث أضرَبَ سائقو الحافلات.

يُشَكِّلُ ارتفاعُ أسعارِ المُنتَجاتِ الغذائية ضربةً أُخرى لملايين من الطبقتين الدنيا والمتوسطة من الإيرانيين الذين يتحمّلون أصلًا وطأة سنواتٍ من سوءِ الإدارة الاقتصادية من قبل الحكومة وانتشار الفساد الرسمي والخاص. لقد أدى قرار إدارة دونالد ترامب في العام 2018 بالانسحاب من جانبٍ واحد من الاتفاق النووي مُتَعَدِّد الأطراف المعروف ب”خطة العمل الشاملة المشتركة”، وإعادة فَرضِ عقوبات اقتصادية قاسية، إلى تعميق الصعوبات التي يشعر بها الإيرانيون. كما أدّت الحرب في أوكرانيا وما تلاها من ارتفاعٍ في أسعار المنتجات الغذائية إلى تَفاقُمِ الأمور.

الاحتجاجات ليست شيئًا جديدًا في إيران فهي شائعة. لكن إذا واجَهَت الجمهورية الإسلامية حركاتٍ احتجاجية مختلفة خلال أكثر من أربعة عقود من وجودها، فقد زاد تواتُر الاحتجاجات بشكلٍ كبيرٍ خلال السنوات الخمس الماضية. ومن السمات البارزة الأخرى لهذه الموجات الأخيرة من المظاهرات أنها مَدفوعةٌ بفقراءِ الريف والحضر في البلاد. ومع ذلك، إذا كانت هذه الاحتجاجات تحمل كل السماتِ المُمَيَّزة لأحداثِ شغبِ الخبز والصراع الطبقي، فإن الواقع هو أكثر تعقيدًا.

يكشف الفحص الدقيق للاحتجاجات في السنوات العديدة الماضية –ولا سيما الشعارات التي ردّدها الناس من مدن وبلدات المحافظات– عن ميزةٍ مهمّة: يستهدف غضبُ المتظاهرين النظامَ بأكمله، مع هتافاتٍ مُوجَّهةٍ على السواء ضدّ كلٍّ من المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس ابراهيم رئيسي. كما تغيَّرَ المُبادِرون إلى هذه الاحتجاجات مُقارنةً بالحركات السابقة. غالبية الناس التي شاركت في احتجاجات الحركة الخضراء ضد تزوير الانتخابات في العام 2009، على سبيل المثال، كانت تنتمي إلى الطبقات المتوسطة والعليا في المناطق الحضرية، مع مشاركةٍ ضئيلة من قبل الطبقات الدنيا. في المقابل، قاد الاحتجاجات على مدى السنوات العديدة الماضية أفرادٌ من الطبقات الدنيا والمتوسطة-الدنيا من المدن الإقليمية، حتى لو انضم إليها أفرادٌ من الطبقات العليا والمتوسطة في مراحل لاحقة.

هذا لا يعني أن الطبقات الوسطى راضية عن النظام. على العكس من ذلك، في إيران، كان الاستياء من النظام يتخمّر في جميع مناحي الحياة. وكما أشار الصحافي المعارض محمد مساعد، فإن “نظامَ جمهورية إيران الإسلامية يُعاني من انعدام الشرعية. لقد فشل في الوفاء بالوعود التي قطعها قبل 43 عامًا مثل الحرية والعدالة”.

والجدير بالذكر أن الطبقات المُضطَهَدة في إيران والمعروفة بالمُستَضعَفين، والتي وعد رجال الدين بتمثيلها، تحوّلت الآن إلى أشدّ مُنتقدي النظام. لقد شاركت بالفعل على نطاق واسع في احتجاجات 2019، التي امتدت إلى أكثر من 100 مدينة وكانت أكثر الاحتجاجات انتشارًا جغرافيًا في تاريخ الجمهورية الإسلامية. وردّت قوات الأمن الإيرانية على تلك المظاهرات بقتل ما لا يقل عن 1500 متظاهر في أسبوع، مع قطع الإنترنت وفصل إيران عن العالم. على الرغم من أن النظام بدا في البداية وكأنّه يَستعيد السيطرة في الشوارع، إلّا أن أساليبه أغضبت المُحتَجّين ونفّرتهم، وأغرقت البلاد في دوامة من المواجهات.

منذ ذلك الحين، اندلعت موجاتٌ متتالية من المظاهرات –بما فيها إحتجاجات قادها المعلمون وسائقو الشاحنات، وأُخرى على ندرة المياه وسوء الإدارة، واحتجاجات بدأتها الجماعات العرقية – وهزّت إيران عامًا بعد عام. ما يتشاركونه جميعًا في نهاية المطاف هو أنهم يستهدفون بشكل متزايد النظام الديني الفاسد وغير الكفء وغير الشرعي إلى حدٍّ كبيرٍ بقيادة آيات الله. حتى الإصلاحيين المزعومين، الذين تمّ الترحيب بهم ذات مرة على أنهم البديل الديموقراطي لمشاكل الثيوقراطية المُستعصية، أصبحوا جهاتٍ فاعلة غير ذات صلة لم تعد تحظى بالدعم الشعبي، بسبب عدم قدرتهم وعدم رغبتهم في دعم الشعب وولائهم، عندما يأتي الحساب، للنظام.

بشكلٍ عام، تحتاج الأنظمة الاستبدادية، على الرغم من استخدامها بكثرة لأجهزتها الأمنية القمعية، إلى شراء إذعانِ شريحةٍ مُعَيَّنة من السكان للحُكم بينما تقوم بقمع البقية. في حالة إيران، كان المستضعفون سابقًا قاعدةَ دعمٍ للنظام، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى أن عائدات النفط والغاز في البلاد مكّنت النظام سابقًا من شراء ولاء الشرائح الأفقر من السكان من خلال الدعم. في ذروته في العام 2010، بلغ إجمالي دعم المواد الغذائية والطاقة أكثر من 100 مليار دولار في السنة، من أصل موازنة حكومية قدرها 347 مليار دولار. منذ ذلك الحين، تم إلغاء الدعم تدريجًا بسبب موجات العقوبات المتتالية المفروضة على البلاد. وتم استبدالها بمدفوعاتٍ نقدية تبخّرت قيمتها بسبب التضخم، ما ترك نظام خامنئي يتدافع لإبقاء الفقراء المضطربين تحت السيطرة.

يبدو أن جهاز النظام القمعي هو الأداة الوحيدة المُتبَقّية في مجموعة أدوات رجال الدين، الأداة التي يستخدمونها بحرية لقمع أي اضطرابات. وهذا من غير المرجح أن يتغيّر قريبًا. في الآونة الأخيرة، ضاعفت الحكومة موازنة الحرس الثوري بأكثر من الضعف، والتي استخدمها على نطاق واسع لقمع الاحتجاجات المُناهِضة للنظام في أجزاء كثيرة من البلاد.

كان النظام يعتمد على ارتفاع أسعار النفط للمساعدة في تعزيز الاقتصاد، وشراء الوقت –وموقف تفاوضي أقوى– في المفاوضات لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. إن رفع العقوبات الأميركية في حالة التوصل إلى اتفاقٍ نووي مع طهران من شأنه أن يُعزِّزَ الآفاق المالية للحكومة. لكن إحياء هذا الاتفاق يبدو الآن بعيدًا كل البعد عن أن يكون مضمونًا، وحتى إذا تم رفع العقوبات، فإن المشكلة الرئيسة والأسباب الجذرية للوضع الحالي –أي فساد القيادة الإيرانية وعجزها– ستظل قائمة.

في غضون ذلك، من خلال الاستثمار في الإكراه والقمع بدلًا من تلبية الاحتياجات الفورية لسكانه، يُمهّد النظام الطريق لمزيدٍ من الاحتجاجات في المدى الطويل، حتى لو تمكّن من قمع الاحتجاجات في المدى القصير. كلّما قمعَ النظام هذه الاحتجاجات بدون معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة، زاد احتمال ظهور المزيد من الاحتجاجات في أماكن أخرى من البلاد في أقرب فرصة. كان هذا صحيحًا في أعقاب احتجاجات 2019 الدموية، ولا يزال قائماً حتى اليوم. من المحتمل ألّا تؤدّي الاحتجاجات المستمرة هذه المرة إلى نهاية النظام، لكنها ستؤدي بلا شك إلى تعميق الغضب العام ضد جميع فصائله.

  • هشام الجعفري هو مراسل “أسواق العرب” في طهران.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى