المَجدُ للتوتِ البَرِّي

عبد الرازق أحمد الشاعر*

لا يُمكِنُكَ المُراهَنة إطلاقًا على ذاكرة الشعوب، لا سيما تلك التي تُعاني من القَهرِ والاستبدادِ والتزييفِ المُمَنهجِ تحت نير الأنظمة الشمولية المُستَبدّة. فهي شعوبٌ تُسَيِّرُها الخرافة وتُضَلِّلها الصورة وتَغويها الحكاية. وما أسطورة بافليك موروزوف إلّا دليلٌ حيّ على إمكانية تزييف الوعي الجمعي للشعوب من خلال الروايات المختلقة.

كان بافليك شيوعيًّا بامتياز. ورُغمَ أنّه لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره، إلّا أنه كان شخصية قيادية في منظمة الروّاد الصغار. وبما أن وَلاءَ الفتى لوطنه كان أكبر من ولائه لأمه وأبيه والناس أجمَعين، فقد قرّرَ دون تردّد إبلاغ السلطات حين رأى والده يزور تصاريح المرور للفلاحين الذين جرّدتهم الحكومة الشيوعية من ممتلكاتهم. ألقت السلطات القبض على والد بافليك، وتم تقديمه للمحاكمة، ومن ثم إعدامه على مرأى ومَسمَعٍ من الجميع.

بعد أيام عدة من الواقعة، خرج بافليك موروزوف وأخوه فيديا، البالغ من العمر ثماني سنوات، لجَمعِ ثمار التوت البرّي من أحد الأحراش النائية. هناك، كانت ثلّة من الأوغاد في انتظارهما. وبعد يومين من مقتل الطفلين، عَثَرَ أحد الفلّاحين على ثمار التوت بالقرب من جثة بافليك الذي تلقّى طعنةً نافذة شقّت قلبه الصغير نصفين. وعلى مقربة من جثة المواطن الصغير الشريف، كانت هناك جثة أكثر ضآلة تخثرت الدماء حول عنقها الصغير. اهتمت السلطات بالأمر، وأرسلت رجال المخابرات السوفياتية، ال”كيه جي بي”، للبحث عن الجناة. وبعد أيام، أُلقيَ القبض على أربعة من أقارب الفتى، من بينهم جدّه وجدته، وتم تقديمهم للمحاكمة.

وفي ذكرى وفاة الطفل الوطني، كتبت جريدة تريبيونا الروسية: “ذاكِر جيدًا؛ أَحِبَّ وطنك؛ إفضَح أعداءَ الاتحاد السوفياتي؛ ولا تأخذك بالخونة رأفة”. كما ظلّت الأمهات يوصين أولادهن باحتذاء النموذج البافليكي رَدحًا من الزمن كلّما همّوا بركوبِ الحافلة التي ستقلّهم إلى مدارسهم. ولم يُشَكِك أحدُ – وما كان ليُسمَح لأحدٍ أن يُشكّك – في وقائع هذه الرواية، ودقّة تفاصيلها.

مرّت السنوات، وفقدت الأسطورة بعضًا من قدسيتها، وبدأ الناس يطرحون الأسئلة الشائكة حول تلك المرويات، ومن بينهم مهندس وكاتب مسرحي يدعى يوري دروزنيكوف. دُعي دروزنيكوف في العام 1974 لحضورِ مُؤتمرٍ أدبي في مدينة روستوف التي تقع في جنوب روسيا. وتطرّقَ الحاضرون إلى ذكر أبطال روسيا الإيجابيين ومن بينهم الفتى بافليك موروزوف. فطرَحَ دروزنيكوف سؤالًا على الحضور: “كيف يمكننا استنهاض الأخلاق الحميدة في بلادنا من خلال نموذجٍ لطفلٍ خان أباه؟” وظل السؤال يتردّد في جنبات القاعة، من دون أن يتقدَّمَ أحدٌ للإجابة عنه.

فور عودة دروزنيكوف إلى موسكو، تقرّر استدعاؤه إلى مقر ال”كيه جي بي”، وتم توبيخه هناك بشدة، على اعتبار أن بافليك رمزٌ وطني لا يجوز المساس به، وليس من حق أيّ كاتب أن يتجاوز حدوده حتى لا يُقصَف قلمه أو يُكسَر عنقه.

لم يفت هذا التحذير في عضد دروزنيكوف، وقرّر أن يبحثَ في أصولِ هذه الرواية حتى يتأكّد من مدى صحّتها. فلم يعثر على صورتين متطابقتين للفتي بافليك. حتى الروايات التي كان الناس يتناقلونها عن الفتى، مختلفة جدًّا. فتارةً هي الأم الشريرة التي أوعزت إلى بافليك للإبلاغ عن أبيه رغبةً في التخلّص منه، وتارةً كان الفتى شريرًا لا يُجيدُ القراءة ولا الكتابة، حتى اسم الطفل اختلف الفلاحون حوله، فمنهم من قال إنه باشكا ومنهم من قال إنه بافليك.

لكن عليك أن تكون بافليكيا ما دمت تعيش في بلدٍ كروسيا، وأن تُصدّق ما تقوله وكالة الأنباء الحكومية والناطقون باسم الحزب الحاكم كي تَحتفظَ برأسك فوق كتفيك أطول فترة ممكنة. عليك أن تُمجّدَ ما فعله بافليك وأن تُوصي أطفالك وهم في الطريق إلى مقاعد الدراسة أن يقتدوا بموروزوف وإن وشوا بك إلى الحاكم وعرّضوا قلمك أو عنقك للكسر. فكل شيءٍ يَهون إلّا الوطن وحزبه الواحد. والمجد للتوت البرّي في وطنٍ لا يُحسِنُ الآباء والأطفال الحفاظ على حياتهم رُغمَ ما تَبذله السلطات في سبيل ذلك.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.om

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى