ليلةُ العَودَة إِلى الوَطَن

هنري زغيب*

لا لأَنَّ الدُخولَ مَجَّانيٌّ بل لأَنَّ الجُمهورَ الذي تقاطَرَ كثيفًا ليلة الأَحد إِلى “فوروم بيروت” كأَنّه انهمرَ انتقامًا من سلطةٍ فاسدةٍ فاشلةٍ أَحرقَت ما في طموحه من أَمل، وأَوصلتْه إِلى الجوع والتشرُّد والتهجُّر فحرمتْه ثمن الرغيف والبنزين والدواء ليأْتي الفن فيمنحه مجَّانًا رغيفَ الأَمل بأَن لبنان الفن والثقافة والإِبداع هو الطريق الوحيد لا للعودة إِلى الأَمل وحسْب بل للعودة إِلى الوطن.

ويكون أَن هذه السهرة بالذات، في مجمَّع “الفوروم” بالذات، كأَنّها نشَبَت ثأْرًا من دماره في انفجار مرفإِ بيروت (4 آب/أغسطس) ومن بقائه مهجورًا محجورًا مقهورًا إِبّان الجائحة الكورونية القاتلة، فجاءت “ليلةُ الفوروم” تُعيدُ إِليه أَلَقَه الجميل ليُزهِر داخلُه بشموس الفن اللبناني فيما خارجُه قاتمٌ يتلاطم فيه سياسيون حقيرون بمواقفهم المتشنِّجة وتصاريحهم الكذَّابة وبياناتهم المشؤُومة ووجوههم القبيحة.

ما أَراده الثنائي أُسامة الرحباني-هبَة طَوَجي، ليلة الأَحد، جاء يؤَكِّد أَن السياسيين الذين، نهار الأَحد الأَسبق (15 أَيار/مايو)، تقدَّموا من اللبنانيين بالترشُّح، لم يَلْحظ أَحدٌ منهم في برنامجه الانتخابي قطاع الثقافة، فغرقوا وأَغرقوا الناخبين بشعارات لفظية باردة حتى انهار مَن انهار وفاز مَن فاز، فيما فشلُهم وفوزُهم عابران كالغيم العابر والزبَد الغامر، ولن يبقى في الذاكرة من هذا الأَيار/مايو 2022 إِلَّا “ليلة الفوروم”، قدَّمت إِلى الحاضرين أَصداءَ فنية لا تنهار ولا تعبُر، وأَكَّدَت للُّبنانيين والعالم (عبر شاشة MTV) حقيقةَ أَن لبنان الرحباني، في قلب الفن الخالد، هو الباقي عبر الأَيام.

أَقول “لبنان الرحباني” الخالد في “ليلة الفوروم” (كاملةً بأَلحان أُسامة) وأَعنيها، لأَن منصور كان معنا، في صوت هبَة صدَحت بقصيدته “عودة الفينيق”، وبلُؤْلُؤَتَيه الأُخْرَيَين من “صيف 840” قبل 35 سنة (1987): “وحياة اللي راحوا” (غنَّتْها هدى في المسرحية بتأَثُّر وتأْثير) و”لَمَعت أَبواق الثورة” (أَطلقها في المسرحية غسَّان صليبا نشيدَ ثورة خالدًا).

الياس الرحباني أَيضًا كان حاضرًا معنا، الحبيب الياس، بلفتةِ وفاءٍ نوستالجيةٍ خاصة شاءَها أُسامة “تكريمًا لبيِّـي التالت”، في دويتُّو بين هبَة طَوَجي والمغنية إِليسَّا (ضيفة السهرة) بأَدائهما معًا “حنَّا السكران” و”كان عنَّا طاحون”، بين أَبرز نجاحات الياس للخالدة فيروز.

لم تقتصر السهرة على الأَداء الغنائي (من مجموعات أُسامة الرحباني-هبَة طَوَجي، قديمِها والجديد: “خَلَص”، “عَ بالي”، “مين بيختار”، “أَول ما شفتو”، “الدني إِيام زمان”، …)، فجاءت الكوريغرافيا لوحاتٍ تعبيريةً رمزيةَ الخطوات التصويرية والملابس البهية، ترفدُها على الشاشة الكبرى في عمْق المسرح صُوَرٌ ومناظرُ وكتاباتٌ وأَفلامٌ ساعدَت العين على السَماع والاستمتاع.

وجاء اشتراك الموسيقي اللبناني العالمي ابراهيم معلوف يُطْلِع من “الترومپيت” حُضُورًا للموسيقى اللبنانية نبيلًا جميلًا (خصوصًا في مقطوعته “ميلوديا الحرية”) يذكِّر ببادرته اللبنانية في الأُولمپيا” (احتفال “موحَّدون من أَجل لبنان” – پاريس، الخميس 1 تشرين الأَول/أكتوبر 2020).

كما كانت لبعض الأُغنيات، بكلمات غدي الرحباني وتلحين أُسامة، نفحةُ الثورة في نفوس اللبنانيين (منها: “بغنّيلَك يا وطني ت تخلَص الإِيام”، “عَ البال يا وطننا”، …).

“ليلة الفوروم” لم تكن أَداءً غنائيًا أَمام ميكروفون. كانت مسرحًا يموج بالحياة، طرَّزه موسيقيون من الأُوركسترا الفيلارمونية الوطنية اللبنانية وأَعضاء كورال “صوت السماء”، ولأْلأَتْهُ هبَة طَوَجي بصوتها المتعدِّد وحيويَّــتها المسرحية الاستعراضية النابضة بالفرح والثورة والأَمل (عنوان السهرة “ليلة الأَمل”).

لفتة شكران إِلى الرُعاة التسعة الذين، بدعمهم المادي وإِيمانهم برسالة الفن، أَمَّنوا حصول هذه السهرة مجانًا لجمهورٍ تَشكَّلَ معظَمُهُ من جيل جديد، صبايا وشبابًا، احتشدوا كما في عرس، ولو كان لهم لتابَعوا السهرة وقوفًا كامل الوقت تعبيرًا عن تجاوُبِهم لهذه الحيوية اللبنانية العائدة إِلى زمن السهَر والفرح، إِلى ليالي الحبيبة بيروت الطالعة من دُمُوعها وآلامها وهمومها وفجائعها وضحاياها وشهدائها، ثكْلى بسبب سُلطة فاجرة عاهرة هدَّمت لبنان الدولة فجعلتْ شعبَه أَن يكون شحَّادًا على أَرصفة الدول، ليُطلَّ من “الفوروم” وجهُ لبنان الوطن ملوِّحًا دائمًا بما في لبنان من كنوز أَدبية وفنية وثقافية، في طليعتها الثلاثيُّ الخالد عاصي ومنصور وفيروز، فيكون دائمًا لهذه الكُنوز أَن تتخطَّى عُقْم السُلطة وحرباويتَها، وتَهَشُّم الدولة وساستَها، وتسطِّر الفرق الساطع بين كوارث لبنان السلطة، وعُقم لبنان الدولة، وعبقرية لبنان الوطن.

ليلة الأَحد، دخلْنا إِلى “الفوروم” في بيروت الدولة المُطفأَة.

وحين خرجْنا، نحو منتصف الليل، كانت تنتظرُنا – واعدةً بالأَمل – شمسُ بيروت الوطن.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

  • يصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى