غِشٌّ ديموقراطِيّ

راشد فايد*

بَعدَ الإنشغالِ بالإنتخاباتِ النيابية التي سَيَّلَت أصواتَ اللبنانيين بالليرة والدولار، على مدى أكثر من ثلاثة اشهر، جاء يوم السؤال المُتَكَرِّر، بُعَيدَ كلّ انتخاباتٍ تشريعية منذ العام 1992: نبيه بري أم غير نبيه بري لرئاسة مجلس النواب؟ ومعه، أيّ السؤال، يَغرَقُ البلد في حفلةِ زجلٍ سياسي، لا يلبث أن ينطوي ويعود الجميع إلى قواعد اللعبة المُعتادة، من تسوياتٍ ومُحاصصات في توزيع اللجان النيابية، وهيئة مكتب المجلس وما إلى ذلك.

لا يزال هذا الفصل المسرحي في بداياته، لكنه لم ينطلق بعد إعلان نتائج الإقتراع، بل قبله بكثير، تحديدًا مع بدء الترشيحات، فما تعرّضَ له المرشحون الشيعة، في الجنوب والبقاع، من تنكيلٍ واضطهادٍ، و”سحاسيح” بدنية ومالية، واستنفار “البيئة الحاضنة” ضدهم، وتخوينهم لدفعهم إلى سحب ترشيحاتهم، أتى ثماره اليوم: فالأغلبية الشيعية في مجلس النواب من الـ 27 مقعدًا تقع في أسر الثنائي المذهبي، الذي لا يُغيّر من كونه كذلك تسمية مُريديه له، بعد الانتخابات، بـ”الثنائي الوطني”، طالما لم يخرج إلى هذا المدار منذ المصالحة الأسدية مع ايران، في نهاية الستينات من القرن الفائت، بعد صداماتٍ دموية، وانعكاسها تسوية بين الثنائي المحلّي تُحدّدُ تقاسم الهيمنة المشتركة على القرار الشيعي، ومن خلاله على البلد.

ينشغل اللبنانيون، اليوم، بحربٍ عبثية هي انتخاب رئيس لمجلس النواب، وتثير الكتل البرلمانية العائدة إلى ساحة النجمة، أو قصر الأونيسكو، غبار مناوشات لا يُبرّرها المنطق إلّا في الدول التي لا تمسخ الديموقراطية إلى حدّ المقامرة بمصير الوطن. فمَن صَمَتَ أمام قبض الثنائي الشيعي على خناق المرشحين والناخبين بقوة السلاح والمال والتهديد الجسدي، ولم يثره خلال الإنتخابات، كان عليه أن يستنتج، بقليلٍ من التمعّن، أن بري سيكون المرشح الأوحد لرئاسة مجلس النواب، وأن تجربة ترشح عقاب صقر آخر لن تكون مُتاحة مُجَدَّدًا، فأي نكتة من هذا النوع لن يقبل بها رئيس المجلس الذي سيرث نفسه مُجَدَّدًا في هذا الموقع، ويُريدُ أن يثبت آحاديته وقوة إدارته، ولن يتردّدَ في رفع يافطة الميثاقية الشهيرة باعتبارها تترك لكل طائفة أن تُقرِّرَ أيّ رأس يُتَوِّجها باعتباره عنوان مصالحها، بكل المعاني..

أطلق الثنائي موجة من “التطبيع” مع دولةِ القانون المُفتَرَضة، فشنَّ الأمين العام ل”حزب الله، السيد حسن نصرالله، حملةً على “شيعة… شيعة” مُستَنكِرًا استخدامها من أنصاره وأزلامه، فيما بادر رئيس المجلس النيابي إلى إعطاء توجيهاته إلى مَن يلزم لتخفيف الطوق الباطوني من حول مقره، في ما يبدو انصياعًا، من الشريكين، لمنطق الديموقراطية، بينما الحقيقة أن الفكرتين ما هما إلّا “ماكياجٌ” للوجه البشع لاستقواء طائفيتهما بالسلاح وترابط جمهورهما بقوة المغريات المادية والمعنوية والعقيدية على حساب الدولة. فهل استمهال الأمين العام اللبنانيين سنتين من دون نقاش في مصير سلاحه هو عرض لتفاهم وطني، فيه شبهة ديموقراطية أم تهديد مبطن بـ 7 أيار جديد؟

هذه الحال تملي على التغييريين وكتل المعارضة البرلمانية التقيّد باللعبة الديموقراطية: ترك الثنائي ومن يحالفه يفوزون برئاسة المجلس لأن المعركة، في الظروف الراهنة، هي في الإعتراض على الممارسات المجلسية التي أرساها برّي منذ قسّمت الوصاية الأسدية إرث الدولة اللبنانية.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى