صَفقاتٌ مَشروعَةٌ عِندَ حُدودِ التَماس

عبد الرازق أحمد الشاعر*

حينَ تَضَعُ الحَربُ أوزارَها، يذهبُ المنتصرون إلى ساحاتِ الوغى لجَمعِ الأسلاب ورَشقِ أعلامهم المُلَوَّنة في بطونِ الجبال، بينما يذهبُ المُنهَزِمون خافضي الرؤوس في مشاهد جنائزية لا تنتهي لحمل ضحاياهم وتضميد جرحاهم … أما نحن – الذين جاهدوا قدر رعبهم البقاء في الكواليس حتى النهاية – فسوف نخرج حاسري الرؤوس، مهما كانت ألوان الأعلام حولنا، لنشارِك المنتصرين رقصاتهم الماجنة ونُوَزِّع الدموع وباقات الورود الداكنة فوق قبورِ مَن خَسروا الحرب. وحين يضطرّنا الغُزاة إلى دفع فواتير الحياد، سندرك أن تكاليف الحرب لم تكن أشد قسوة، وأن الواقفين عند خطوط التماس يُهزَمون مرّتَين.

هي حربٌ لم نذهب إليها طواعية، ولم نُولِها ظهورنا راغبين، بل وقفنا منها موقف معدية مهترئة فوق قناةٍ مائية ضيّقة، يشدّها الروس، فتئز أخشابها وتتحرّك مُقدّمتها صوب الشمال، لكنها سرعان ما تتوقف وتستدير في اتجاهٍ غربيٍّ مألوف حين تجرّها الأكفّ الأميركية الغليظة، ثم تعود فتئز وتستقر، فلا هي أرضًا قُطِعَت ولا خشبًا مُتهالكًا أبقت. ويبقى الراحلون على متنها بلا وجهة ولا بوصلة، وكأنهم عرائس “ماريونيت” ترتدي بزّاتٍ عسكرية مُمَوَّهة لكنها لا تُجيدُ حربًا ولا تُجيدُ سلامًا.

ماذا لو غَلَبت الروم؟ هل يفرح المؤمنون بنصر الصليب المعقوف على الصليب ذي المسند؟ ألم نُجَرِّب بأنفسنا الصلب فوق أعواد الغربيين ووعودهم ردحًا من الزمن؟ ألم تتراجع أمّتنا علميًا وثقافيًا وسياسيًا وفكريًا وصناعيًا وتكنولوجيًا ومعلوماتيًا بفضلِ غُزاةِ الشمال الذين لم يرقبوا في أمّتنا إلّا ولا ذمّة؟ ألم ينهبوا خيراتنا ويهلكوا حرثنا ونسلنا ويُمرِّغوا أنوف زعاماتنا في الرغام وهم يضحكون ملء أشداقهم التي تنزُّ دمًا؟ هل يفرح المؤمنون بنصرِ مَن أذاقنا الله على أيديهم لباس الجوع والخوف والمرض؟ هل نسي أبناء هذه المنطقة الأشقياء وجه أميركا القبيح الذي لم تجهد نفسها لإخفائه ذات يوم؟

ولكن، ماذا لو استطاع الدب الروسي أن يبسط مخالبه القذرة فوق الكرة الأرضية؟ هل يَتَوَجّب على المسلمين أن يخرجوا إلى صعدات الجبال مُهَلِّلين يصافح بعضهم بعضًا لانتصارِ جيشٍ وَلَغَ في دمائهم حتى الثمالة؟ ألم يفرض الروس بعد انهيار الخلافة العثمانية التنصير واللغة السلافية على المسلمين العرب والتركمان والفرس؟ أم نسينا مشاهد حرق المقاتلين الشيشان في اسطبلات الخيول وهم أحياء يرتجفون؟ هل نسينا صورة بطريرك الأرثوذكس الروس، كيريل الأول، وهو يبارك أول فوج من القوات الروسية المتوجهة إلى سوريا لممارسة القتل المُمَنهج في حقّ أطفال سوريا ونسائها والذي لا يزال مُستَمِرًّا حتى يومنا هذا؟ ألم يمارس الروس حرب إبادة شاملة بحق مسلمي القرم ودول القوقاز المُسلمة؟

صحيح أن الحرب التي تدور رحاها بالوكالة في أوكرانيا ليست وليمة للضعفاء من أمثالنا، لكن أليسَ حريًّا بالضباع التي تشم رائحة اللحم الطري أن تَقِفَ قرب الفريسة علّها تظفر منها بشيء، لا سيما وأنها ستدفع فاتورة الولائم كلها حتى وإن لم يُطلَق من أرضها قذيفة أو يخرج من أرضها ناقلة جند؟ هي لحظة فارقة تستطيع فيها فرقة العرائس الرابضة فوق المعدية المتآكلة أن تتحرّرَ من خيوطها القديمة، وأن تُحدّدَ شروط عبورها المحتوم. وإن المساومة حيلة الضعفاء، فإنها تصبح أمضى من كل الأسلحة العابرة للخرائط حين يستطيع الطرف الأضعف ممارستها بدهاء.

فلنُهدِّئ من حدّة تعاطفنا مع طَرَفَي النزال، لأن لنا مع كلٍّ منهما تاريخًا من القهر لا يُنسى. ولنوفِّر قصائد الرثاء وعبارات التشجيع والمديح، فكلاهما يعرف ما يريد من حربٍ لا ناقة لنا فيها ولا حقل غاز، وهم لا ينتظرون منا شيئًا من ذلك على أيِّ حال. هم يريدون نفطنا وغازنا وقنوات مائنا، وعلينا أن نساوم على حليب أطفالنا ومستقبل اقتصادنا وحدودنا الآمنة، وهي في اعتقادي لحظة فاصلة من مرحلةٍ تاريخية قد لا تتكرّر.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى