أردوغان يُعطي استراتيجيةَ “صفر مشاكل” فرصةً أخرى

بعدما عرفت تركيا أخيرًا أزمات على حميع الصعد، يحاول رئيسها رجب طيّب أردوغان العودة إلى استراتيجية “صفر مشاكل” مع الجيران لمواجهة الوضع المتردّي في البلاد والذي يُهدد إعادة انتخابه في العام المقبل.

الرئيس رجب طيب أردوغان يستقبل رئيس إسرائيل إسحق هرتسوغ: إعادة الحرارة للعلاقات بين بلديهما

فريدا غيتيس*

قبل عشرين عامًا، قاد عمدة إسطنبول يومها، رجب طيب أردوغان، حزبه إلى فوزٍ ساحقٍ في انتخاباتٍ برلمانية كان من شأنها أن تُغيِّرَ السياسة التركية. ما تلا ذلك كان عقدين من السيطرة المُستَمِرّة على الحكومة من قبل حزب العدالة والتنمية، الذي عمل مباشرةً على التأكيد والإثبات بأن الحزب الإسلامي لا يُمثّل تهديدًا، ولكنه في الواقع يمكن أن يدفع البلاد إلى الأمام.

بعد فترة وجيزة من الفوز في العام 2002، أطلقت الحكومة واحدة من أكثر خططها إثارة للاهتمام: سياسة جديدة تحت عنوان “صفر مشاكل مع الجيران”، قدمها أحمد داود أوغلو، الأكاديمي الغامض الذي كان يشغل آنذاك منصبَ كبير مستشاري السياسة الخارجية للحكومة. لم تكن “صفر مشاكل” “عنوانًا” فقط، بل فكرة تقوم على دعونا نتعامل مع الجميع. وقد جادل داود أوغلو -الذي أصبح رئيسًا للوزراء وقاد حزب العدالة والتنمية قبل أن يصبح أحد أشد منتقدي أردوغان- أنه من خلال الحفاظ على علاقات جيدة مع الحكومات المجاورة، يمكن لتركيا الاستفادة من موقعها كجسرٍ بين أوروبا وآسيا، بين أوروبا والعالم الإسلامي، وبين غير العرب والعرب.

ولكن لاحقًا، بعد أن عزّز أردوغان قبضته على السلطة، وانتقل من السيطرة غير المباشرة إلى القيادة العلنية كرئيس للوزراء في العام 2003، بدأت السياسة التركية تتغيّر بسرعة أكبر. لم يمضِ وقتٌ طويل حتى بدأت سياسة داود أوغلو تتلاشى وتنهار. استولى أردوغان تدريجًا على مقاليد السلطة وبدأ دفع رؤية لنفسه وتركيا كقائدة لعالم إسلامي مُتَغَيِّر، وغالبًا ما أثار استعداء جيران تركيا وأصدقائها. بدت سياسة أنقرة وكأنها تنقلب من “صفر مشاكل مع أحد” إلى “مشاكل مع الجميع”.

بعد عقدين من الزمان، بدأ أردوغان، الذي أصبح الآن رئيسًا لتركيا وأقوى زعيم لها منذ الأب المؤسس مصطفى كمال أتاتورك، مُنعَطفًا، عازمًا، على ما يبدو، العودة إلى نموذج داود أوغلو.

التحوّل المفاجئ هو اعترافٌ ضمني بأن الأمورَ لا تسير على ما يرام –لتركيا ولأردوغان على السواء- قبل الانتخابات العامة في البلاد التي من المتوقع أن تجري في العام 2023 والذكرى المئوية المهمة رمزيًا لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة. وتُعاني تركيا من أحد أعلى معدلات التضخم في العالم، والذي بلغ 70 في المئة في نيسان (إبريل) الفائت، وهي أزمة يلقي كثيرون باللوم فيها على إصرار أردوغان المُحَيِّر على خفض أسعار الفائدة خلافًا لتوصيات الاقتصاديين. فقدت الليرة التركية ما يقرب من نصف قيمتها في العام الماضي، ويتزايد الاستياء من حزب العدالة والتنمية. في الوقت نفسه، تتمتع المعارضة بالثقة بعد تحقيقها انتصارات مهمة في الانتخابات المحلية في العام 2019.

بعدما ورّط أردوغان نفسه وبلاده في أزمات مختلفة، يسعى الآن بقلق إلى حماية موقعه من خلال تعزيز الاقتصاد، واستعادة الاستثمار الأجنبي والسياحة، وإعادة وضع البلاد كقوة مؤثرة في الاستقرار الإقليمي. لكن القيام بكل ذلك يتطلب إصلاح الأسوار المُتضرّرة كثيرًا.

في الأشهر الأخيرة، أطلق أردوغان حملة محمومة لإعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل ومصر وغيرها – وهي البلدان التي، قبل وقت ليس ببعيد، بدا أنه يَسعَدُ بإهانتها. حتى وقت قريب، بدا أردوغان تقريبًا عازمًا على استفزاز جيرانه من أجل تعزيز الدعم في الداخل ومع جماهير مُعَيَّنة في الخارج. لذلك فإن الكثيرين يشككون في صدقه اليوم، وبشأن ديمومة تقديره الجديد للديبلوماسية الثنائية. ومع ذلك، فإن جيران تركيا يمسكون بيده الممدودة، وبالكاد يستطيعون إخفاء دهشتهم من التحوّل في اللهجة.

حَدَثَ التغييرُ الأكثر دراماتيكية في العلاقات مع إسرائيل، الدولة التي كانت يعتبرها أردوغان مفيدة في حملته لرفع مكانته في الداخل وبين مسلمي العالم. لقد مارس أردوغان استخدام مناسبات بارزة للهجوم على معاملة إسرائيل للفلسطينيين. في العام 2009، خرج بشكل ميلودرامي من المنصة في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بعد تبادل لاذع مع شيمون بيريز، رئيس إسرائيل آنذاك. في العام التالي، كاد أن يقطع العلاقات مع إسرائيل بعد مقتل تسعة نشطاء أتراك في اشتباكات بين القوات الإسرائيلية وقافلة بحرية مقرها تركيا حاولت كسر الحصار البحري الإسرائيلي لإيصال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة.

الآن، الرئيس التركي –الذي وصف الصهيونية ذات مرة بأنها “جريمة ضد الإنسانية”– يستهدف إسرائيل في هجوم ساحر ينطوي على مخاطر كبيرة. في الأسبوع الفائت، في يوم الاستقلال الإسرائيلي وذكرى النكبة لدى الفلسطيين، على الرغم من العنف المستمر بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية، أرسل أردوغان رسالة إلى الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ يشير فيها إلى التاريخ وتمنياته “بالصحة والسعادة … والرفاهية، وازدهار شعب إسرائيل”.

كان التغيير مثيرًا للغاية، وكان من الصعب تصديق ذلك. وكثيرٌ من الإسرائيليين يُشكّكون بهذا التحوّل، قائلين إنهم سينتظرون ليروا ما إذا كانت تصرفات أردوغان تتطابق مع أقواله. بعد كل شيء، مر عام بالضبط عندما وصف أردوغان إسرائيل بأنها “دولة إرهابية”.

لكن هذا لم يكن سوى أحدث جهود أردوغان. في آذار (مارس)، استقبل أردوغان هرتسوغ بطريقة لافتة عندما قام الرئيس الإسرائيلي بزيارة تاريخية إلى أنقرة. وتعهّد الجانبان بإطلاق حقبة جديدة في العلاقات بين بلديهما، مع الاعتراف بخلافاتهما بشأن القضية الفلسطينية. هناك حديثٌ الآن عن أن حكومة أردوغان قد تطلب من قادة “حماس” مغادرة تركيا، وهي خطوة من شأنها أن تقطع شوطًا طويلاً في إقناع الإسرائيليين بجديته. ومن شأن هذا القرار أيضًا أن يساعد أردوغان بشكل ملائم على كسب ثقة أهداف أخرى لديبلوماسيته المتجددة، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر، التي تعتبر جماعة “الإخوان المسلمين”، و”حماس” التي تتفرّع منها، خصمًا خطيرًا.

والذي كان مذهلاً تمامًا مثل عكس السياسة مع إسرائيل، كان تحوّل أردوغان 180 درجة بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، منافسة تركيا على زعامة العالم الإسلامي. في العام 2018، عندما اغتال عملاء سعوديون صحافي الواشنطن بوست جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، أطلق أردوغان العنان لغضبه على أفراد العائلة المالكة السعودية. لهذا السبب كان من المذهل رؤية أردوغان يحتضن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان –الرجل الذي يعتقد الكثيرون، بما في ذلك وكالة المخابرات المركزية الأميركية، أنه أمر باغتيال خاشقجي– خلال زيارة إلى الرياض في الشهر الفائت. جاءت تلك الرحلة بعد وقت قصير من قيام أردوغان بصدمة العالم بإعلانه عن رضاه إذا كانت المحاكمة بتهمة قتل خاشقجي ستعقد في المملكة العربية السعودية، حيث يعتقد القليل أن الإجراءات القانونية ستكون ذات مصداقية أو محايدة.

وفي الوقت نفسه، فإن هدف أردوغان المتمثل في تأمين الأموال التي تمسّ الحاجة إليها من دول الخليج الثرية يؤتي ثماره بالفعل. في تشرين الثاني (نوفمبر)، قام ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد بزيارة تاريخية إلى تركيا، تلتها في شباط (فبراير) زيارة الرئيس التركي إلى أبو ظبي. وقد أثمرت هاتان الزيارتان بالفعل إلى وعدٍ من الإمارات العربية المتحدة باستثمار حوالي 10 مليارات دولار في تركيا.

بعد أشهرٍ قليلة من حملة أردوغان الجديدة، يبدو أن “لا مشاكل مع الجيران” قد تؤتي ثمارها.

  • فريدا غيتيس محللة سياسية في الشؤون العالمية ومساهمة منتظمة في سي إن إن وواشنطن بوست. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @fridaghitis.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى