صوتُ الانتخاباتِ “المَبحوح”

رشيد درباس*

ما أشدَّ عَمَى الذي يعطيك من جَيْبِهِ، لِيَأْخُذَ مِنْ قلبك.
جبران  (من ” رمل وزبد”)

ليس كالانتخابِ ما يُثيرُ الالتباس، لأن برهةَ انفصالِ الورقةِ عن صاحبها، تُحدّدُ مَصيرَ الناسِ لسنين، فهي كالضغط على الزناد، إذ يذهب المقذوف إلى مداه، دون قدرةٍ على استرداده أو حرفه عن خَطِّه.

وما يُثيرُ الحَيْرة، أن اليدَ التي تضع ورقتها في الصندوق، قد تكون مُرتعشة أو مُترَدِّدة أو مَخدوعة، أو مُثقَلة برشوةٍ أو دَين، ولكنها في وضعنا الراهن فقدت كثيرًا من حريتها حين كبَّلها “المُشَرِّع” بقانونٍ يتلبَّس النسبية الغشّاشة، فيما جوهره، الفردية المتوحِّشة وهو يُدْخِلُ الناخبين، على  تفاوت ثقافاتهم، في دَوَّامةِ المعادلات الرياضية، وَيُخْرجهم من فلك حرية الاختيار إلى مدارٍ مغناطيسي اختلط حابله بنابله.  مَثَلُ ذلك، أنني إذا كنتُ مُرتَبِطًا بمُرشّحٍ ما، اضطرته الحسابات الانتخابية للانضمام إلى قائمة لا أؤمن بخطّها السياسي، أكون مُلزَمًا بأن أذهبَ إلى خيارٍ غير خياري لِنُصْرَةِ مُرشَّحي، أو أُعْرِض عنه إلى قائمةٍ أخرى قد تضمّ مَن لا أرضى عن خلقه أو استقامته أو كفاءته، وفي هذا منتهى التقييد لحرّية الاختيار لأن “حائك القانون” فصَّل لنا ثوبًا استعارَ صدره من لباس اللوردات، وجعل من ظهره بردعة، واقتبس كُمَّيْهِ من عصر بني عثمان، أما سرواله فمليءٌ بالثقوبِ الكاشفة للعورات على غرار سراويل الشابات والشبان في هذه الأيام.

لا أظنُّ أنَّ هناكَ فضيحةً تشريعية كهذا القانون الذي تخطَّى قوانين عهد الوصاية إلى أسلوبٍ يعتمدُ إصدارَ معظم النتائج قبل الذهاب إلى مراكز الاقتراع، ويتعمّد ذرَّ الفتن داخل القائمة الواحدة، فيدفع المُرشَّح إلى ركوبِ ظهرِ أخيه أو إلى طعنه بخنجرٍ معقوف النصل، بحيث إذا وصل مَن وصلوا، تفرّقوا فرادى، بل مُتخاصمين، وهذا بحدِّ ذاته أكثر الطرقِ مُجافاةً لمبدَإِ النسبية الذي يقوم على اصطفافِ مُرَشَّحي القوائم المؤتلفة في كتلٍ نيابية مُنسجمة.

كما لا أظنُّ أن قانونًا آخر، استطاع كهذا القانون أن  يُقَسِّمَ اللبنانيين إلى فسطاطين، واحدٌ يتلهّى بالتنافس والتحارب والمُطاعنة، وآخرٌ يدخل إلى المجلس في نظامٍ مَرصوصٍ تضبطه صافرة، وتُحرّكه كلمتا ” تأهّب أو استرح”، ذلك أن استطلاعات الرأي مُنغَمِسةٌ في استثمارِ الموسم حتى ثمالته، وهي تخرج علينا كل يوم بأرقامٍ غبَّ الطلب، فيما لا خُبْزَ لها في القاطع الآخر، حيث “الأمر” أصدق إنباءً من الكُتُبِ، وهذا يُذكّرُ بقول دزرائيللي:”الكذب درجات، يبدأ بالكذب البسيط، ثم بالكذب الملعون، ثم بالإحصاء”.

لقد سُنَّ ذلك القانون، فبات سنانًا مسمومًا، بعد أن صُهِرَ في فرنِ نارٍ شَرِهَةٍ وَصُبَّ في قوالب الشهوة الجامحة، وشُحِذ بالغدر، وَصَدرَ في أروقة الخداع، حيث صَوَّت عليه مَن ظنّوا أنهم أحرزوا لأحزابهم وطائفتهم “حقًّا مسلوبًا”، كما قَبِلَ به من أخذتهم غفلة التصالح، لكنه  آلَ في النهاية إلى مَن يسعى إلى تغيير النظام البرلماني الديموقراطي، من خلال التشريع المفروض، حيث تُصبِحُ الانتخابات بعد حين من قبيل “لزوم ما لا يلزم”، ويتحوّل البرلمان إلى “مجلس شعب”، ويَحتَكِم المرشحون إلى غربال “مصلحة تشخيص” قبل احتكامهم إلى أصوات الناخبين.

ومن اللافت أن الجهة المعروفة تتباهى بهذا القانون، وتراه إنجازًا مُوازيًا لإنجازاتها الهائلة في الكهرباء والاقتصاد واحترام الدستور واستقلال القضاء.

ويستدعي التنبيه إلى أنه ليس أسوأ من النظم البوليسية الاستبدادية المباشرة إلا الاستبداد “الديموقراطي” الذي “يحترم” الصناديق بعد أن يحشوها بأوراقه، ويدعو الناس للقيام بواجبهم وممارسة حقوقهم، فيما تقوم قوانينه بتعطيل تلك الحقوق بقيود النصوص الملغومة والتدابير الزاجرة، وهو نظامٌ لم يشفع ظاهره بالتغطية على باطنه، بعدما تهاوت مثيلاته من النُّظُم أو أوشكت، ذلك أن زمان ” المُلهمين والقادة التاريخيين”، لن يذكره التاريخ إلّا بما عانته شعوبهم من فقرٍ وتخلّفٍ وإذلال.

ورُغمَ هذا، يجدر بي أن أجهر بأنه ليس من الحكمة السياسية أن يدعو أحدٌ لمقاطعةِ أيِّ قانونٍ مهما كانت عِلَّاته، فهو بهذا ينفصل عن الواقع وَيُحَلِّق في التهويمات، ويدَّعي طُهرانية كاذبة، ذلك أن التصدّي لتشريعٍ ما،  يكون بمقارعته وإظهار سيِّئاته، وتبيان مراميه، أما إذا رفضنا التعاطي مع الاستحقاق فنكون قد مهَّدنا للاستبداديين سُبُلَهم، واختصرنا مراحلهم، وَوَفَّرنا عناءهم، وسلَّمناهم الدولة بقضّها وقضيضها لقمةً سائغة، وحينذاك لن يجدي الندم ولا البكاء على الحليب المسكوب؛ بل إني ما أسهبت في شرح سيئات القانون الانتخابي إلا لِأَحُثَّ على التمسّك بالاستحقاقات الديموقراطية، خصوصًا أن تجارب قريبة في التاريخ، تُعَلِّمنا أن أنظمةً “توتاليتارية” وصلت إلى الحكم بالانتخاب، ثم استغنت عنه كليًا بعد ذلك، فانتقل تقرير مصائر الناس إلى “اللجان المركزية”  و”المكاتب السياسية” وإلهام القائد الأمين، وهذا يستدعي عدم التفريط بأيّة سانحة، أو وسيلة لمقاومة الغزو المُقنَّع، وذلك بحكم غريزة الدفاع عن النفس، وعن نمط الحياة، والأسس التي قامت عليها دولة لبنان الكبير.

هنا علينا التذكير بأن ما نشكو منه انتخابيًا، هو جُزءٌ مُتكامِلٌ من نَهجٍ يقوم على العبث بالدستور ومؤسساته واستحقاقاته، وعلى تدمير مؤسسات الدولة بمرافقها القضائية والاقتصادية والتعليمية والصحية والمصرفية، وعلى سياسةٍ مقصودةٍ أدّت إلى إفقارٍ عام غير مسبوق، تسلب المواطنين “رفاهية” التفكير والاختيار، وتزجّهم في دوّامة البحث عن رغيفٍ أو دواءٍ أو لحظةِ كهرباء ونقطةِ بنزين، بما يفضي بهم إلى الاستسلام لقدرٍ أسود معروف النتائج، كما هو حال شعوب ازدرى حكامها بمصالحها، واقتادوها عنوة في مسارِ طموحاتٍ خيالية ومزاعم افتراضية، على حساب نموّها وتطورها وحرياتها وأمنها، فباتت تبحث عن إنسانيتها خارج وطنها، ولو كان ذلك على متن ألواح الموت وركوب الأمواج الغادرة.

لا شكّ أن قِصَرَ الوقت لا يُتيح الإسهاب في الشرح والتفسير، كما أن نكدَ العيشِ يضيق عن حثِّ المواطن الغارق في الفاقة على استنفار الطاقة، والذهاب إلى المواجهة، ولكن المواجهة السلمية هي ما تبقّى لنا، وما علينا إلا السعي لاسترداد الزمام، والاستفادة من دروس الانتفاضة، وعدم الاستسلام إلى عوامل القهر والبؤس والنكايات، فقد قال “جاك أتالي”: “يقوم النمل، بسبب “حقده على الصَّرْصَرْ، بالتصويت لصالح الإبادة الحشرية ولو أدّى ذلك إلى القضاء على “الزيز” المُحايد”. وهذا يعني أن انتفاضة الغضب بلا خطة، لا تفضي إلّا إلى “آلامٍ في الحنجرة”- كما قال الشيخ نعيم- و”بُحَّة يضيعُ معها الصوت”، في ظل لامبالاةٍ سياسية ونكول عاجز، بحيث أصبحتُ أنا “المواطن العلماني” أبحث عن نزعةِ الصمود في خطب وعظات المرجعيات الروحية التي يحفل تاريخها بمُعاندة الأمر الواقع الجائر، ذلك أنه مهما اختلَّت موازين القوى، تبقى المصالح العميقة كفيلة باستعادة الاتزان، خصوصًا إذا كان الاختلال لمصلحةِ مشروعٍ مُخالِفٍ لطبيعة الدولة والبنية الشعبية، مع لفت النظر إلى أننا  ما زلنا في نظامٍ يتمتّع بمساحةٍ واسعةٍ من الحرية وعلانية التعبير، وبضماناتٍ قانونية، تبيح للمواطن، أن يُداعي الدولة إذا ارتكبَ القاضي خطأً جسيمًا، وأن يردَّ على وهج السلاح بعظمة التظاهر، ويتصدّى للظلمة بفَضحِ الظلاميين الظالمين، ويفك الضيق بالإبداع، ويحبط محاولة الاسترقاق، بإسقاطِ ورقةٍ حرّة، وذلك أضعف الإيمان.

تقولُ حكمةٌ تركية:” إن الغابة تتقلّص ويظلّ الشجر يُصَوِّت للفأس مُتَوَهِّمًا أن ساعدها الخشبي لن يتنكّر لأصله الشجري”.

لقد آن للشعب أن ينزع ثقته عن الفأس التي تُجَندِلُ شجره!

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صُدورِه في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى