الـ”كابيتال كونترول” في لبنان، مُحاولةُ انقلابٍ على الهَويَّة

البروفسور نيكول بَلّوز بايكر والبروفسور مارون خاطر*

يُمكِن تَعريف ال”كابيتال كونترول” على أنَّه مجموعة من التدابير التي تَهدُف إلى وَضع ضَوابط مؤقَّتة على رأس المال. لا بُدَّ أن يكون ال”كابيتال كونترول” إجراءً مؤقتًا إذ إنه يَتَعارض مع النظام الليبرالي الحُرّ ومع مبدَإِ حُريَّة حَرَكَة الأموال. يَمنَع ال”كابيتال كونترول” التحويلات بهدف المُضارَبَة (Speculative Transactions)، كما يُساعد على المحافظة على الاحتياطات بالعُملة الصَّعبة وعلى ضبط سِعر الصَّرف بفعلِ خَفض الطَّلب. ليس ال”كابيتال كونترول” أداةً لِمَنع التَّحويلات بالمُطلَق، ومِن غير الجائز استخدامه لتكبيل الاقتصاد وإغلاقه. في البلدان التي تَعتَمد نظام سعر صرفٍ ثابت، تُصبح السياسات النقديَّة بِحُكم المُعطَّلة. لِذَلك تَعمَدُ هذه البلدان إلى تَطبيق “كابيتال كونترول” بِهَدَف رَفع حساسيَّة الاستثمار في ظلّ تقلُّبات أسعار الفائدة لِتُصبِح بمستوىً أعلى من حساسيَّة رأس المال مِمَّا يَدفَع نَحو مُشاركة أوسع في عمليَّة النُّهوض بالاقتصاد.

يُشَكِّل تَطبيق قانون الكابيتال كونترول في لبنان مسألة شائِكة لا بَل مُعضِلَة شَديدة التَّعقيد وهو لن يكون في أيِّ حال قادرًا على تَحقيق أهدافه النَظَريَّة والعَمَليَّة إن لم يأتِ في إطار خطة اقتصاديَّة شامِلَة. يعود ذلك إلى الأسباب الثلاثة التالية:

يرجع السبب الأول إلى كَون بُلدان العالم المأزومة طَبَّقَت ال”كابيتال كونترول” في الساعات الأولى للإنهيار. تُساهم الثقة المُتَبادَلة بين هذه الدُّوَل وشعوبها بتنفيذ الخُطط الاقتصاديَّة المرسومة قبل البَدء بِرَفع الضوابط تدريجًا في غضون سَنَةٍ أو سنتين. أما في لبنان، فأقَرَّ مجلس الوزراء مشروع ال”كابيتال كونترول” في الوَقت الذي بَقيَت خُطَّة التَّعافي متَّسمِةً بالسريَّة التامة بما يُشبه تَعَمُّد وضع العَرَبَة أمام الحصان. فالمودعون الذين سيطبق ال”كابيتال كونترول” بِحَقِّ أموالهِم المحجوزة أصلًا، لا يَعلَمون شيئًا عن مَصير ودائعهم ولا عن كيفيَّة توزيعها. يُثيرُ عَدَم إفصاحِ الحكومة عن طريقة توزيع خسائر القطاع المصرفي المخاوف من ألّا يكون الكلام المُلتَبِس عن إفلاس الدَّولة والمصرف المركزي بريئًا. فقد يُخفي هذا الكلام توجّهًا نحو تَحميل المصارف والمودعين الجُزءَ الأكبر من هذه الخسائر تماشيًا مع “هرميَّة الذِّمم” ( Hierarchy of Claims)، وهو مبدأ يَعتَمِدُهُ صُندوق النَّقد الدولي الذي يَميلُ إلى الدفاع عن استدامة ديون الدول وبالتالي إلى عَدَم تحميلها ديونًا إضافيَّة. سيؤدي ذلك حتمًا إلى عَدَم تعاون المودعين وإلى تكريس الاقتصاد النقدي والأسواق الموازية بالإضافة إلى ازدياد الجرائم الماليَّة ولا سيَّما تبييض الأموال. في سياق مُتّصل، يترافق التَخَبُّط في توزيع الخسائر مع غيابٍ كُلي للسياسات الماليَّة التي يجب أن يَرتَكز عليها ال”كابيتال كونترول”. فمشروع الموازنة سيِّئٌ وفارِغٌ من أيِّ إصلاحات كما من أيِّ خطةٍ للاستثمار، ويستند الى إيرادات وَهميَّة لن تُجنيها الدَّولة في غياب النُموّ الاقتصاديّ. مِن هنا تَبرُز أهميَّة أن يَكون التفاوض مع صندوق النَّقد الدولي حقيقيًا ودقيقًا في شرح خصوصيَّة الوضع اللبناني بعيدًا عن الإذعان وتَلَقّي الأوامر.

أما السبب الثاني الذي يجعل من وجود خطة اقتصاديَّة مُوجِبًا لنجاح ال”كابيتال كونترول” فَيَعودُ إلى أنَّ الاقتصاد اللبناني “مُدَولَر”. فالدولار لا يُشَكِّل حاجةً للتعاملات الخارجية فَحَسب، بل أيضًا للتعاملات الداخليَّة. لذلك، وإن سَلَّمنا جدلًا وعن غير اقتناع، أنَّ مشروع ال”كابيتال كونترول” المُحال قادرٌ على ضبط الحَرَكة الخارجيَّة، فَهو لن يَستطيعَ ضَبط السوق الداخلية المتفلتة بفعل التَّهريب والمُضاربة والهَيمنة السياسيَّة. إستطرادًا نسأل: أيُّ سعرُ صرفٍ وأيُّ نظامُ صرفٍ سَيعتَمِدُ المشروع المُقَدَّم؟ وما هو الرَّابط بين ال”كابيتال كونترول” والموازنة من جهة، وخُطَّة التعافي الاقتصاديَّة “السرّيَّة للغاية” من جهة أخرى؟

أما السبب الثالث لضرورة أن يكون ال”كابيتال كونترول” جُزءًا لا يتجزّأ من خطة اقتصاديَّة شاملة فيعود إلى حتميَّة ارتكازه على ميزان المدفوعات الذي لا يقتصر دوره على تبيان الصادرات والواردات. لا بُدَّ أن يَرتَكِزَ أي قانون “كابيتال كونترول” على “دراسةٍ قطاعيَّة” للحساب الجاري في ميزان المدفوعات بهدفِ تحديدِ تأثيره في مختلف القطاعات الإنتاجيَّة. نُشيرُ في هذا الإطار إلى سلسلةٍ من الدراسات التي كُنَّا أعددناها والتي أطلقنا من خلالها مفهوم ال”كابيتال كونترول الذكي” (Smart Capital Control) الذي يَعتَمِدُ في تَحديدِه الإستثناءات على حاجات القطاعات الإنتاجيَّة للاستيراد من أجل إعادة التصدير. نَلفُتُ إلى أن َّهذا المفهوم الجديد يَربُطُ بين الضوابط على رأس المال وحقوق السحب الخاصَّة (SDRs) والتي تُمعِنُ الدَّولة في استنزافها لتمويل الفساد. إلى جانب الدراسة القطاعيَّة لِمُجمَل الحساب الجاري، من المُهِمّ جدَّاًّ دراسة أحد أهم حسابات ميزان المدفوعات وهو حساب “الاستثمارات الخارجيَّة” (Foreign Direct Investments). نُشدِّد في هذا الإطار على أنَّ أيَّ مشروع قانون يَمنَع خروج عائدات الاستثمارات أو يَضَع ضوابط على التدفقات النقديَّة المتأتية من عائدات الصادرات إّنَما يؤدي إلى هروب المُستثمرين وإلى تَحَوُّل رصيد هذا الحساب الى سالب. يُترجَمُ ذلك عمليَا بتقليص حَجم الاقتصاد وبتآكل الناتج المحلي. أخيرًا، يَجِب أن تَشمل دراسة ميزان المدفوعات حساب “الأخطاء والإغفالات” (Errors and Omissions Account) وهو حِساب يَعتَمِدُهُ صُندوق النَّقد الدولي والبنك الدولي كمُرتَكزٍ لِتَحديد حَجم التهريب، بواسطة صيَغ علميَّة، كخطوة أولى على طريق مكافحته.

تنفيذيًا، لا يُمكن أن يُناط تطبيق ال”كابيتال كونترول” وتَحديد استثناءاته بلجنة، أيًا كان قِوامُها. اللجنة مُخالِفة للقانون ولا تَحتَرِم مبدأ فصل السلطات وتشكِّلُ َتعَدّيًا فاضحًا على استقلالية المصرف المركزي المسؤول عن رسم السياسة النقديَّة في الوقت الذي ترسم الحكومة السياسة الماليَّة. ففي الوقت الذي تَتَّجه بُلدان العالم نحو تطبيقٍ واسع للحوكمة ولمبدَإِ استقرار التشريع عبر الاستثمار في الحكومات الإلكترونية، يَذهَب لبنان وحكومته في الاتجاه المعاكس فيتمادان في تكريس الاستنسابيَّة عبر حلول تَفتَقِد إلى المَنطق وتَنعَكِس سلبًا على ما تبقّى من إنتاجيَّة. المصرف المركزي والمصارف هما مَن يجب أن يُطبّقا ال”كابيتال كونترول”، ولجنة الرقابة على المصارف هي المَنوطة بالمراقبة والمحاسبة. لا يمكن أن تنجح التركيبة الهجينة في إرساء القواعد، لذلك لا يُمكِنُ تطبيق ال”كابيتال كونترول” قبل استعادة المصرف المركزي والمصارف للثقة ولدورهما المِحوَري في الاقتصاد. إنَّ مشروع قانون ال”كابيتال كونترول” الحاليّ فارغ من أيِّ مضمونٍ ومن أيِّ هدفٍ، وهو ليس أكثر من انصياعٍ غير مشروط لما يَطلُبُهُ صندوق النقد الدولي الذي يبدو أنه لا يرسل إلى لبنان أفضل خبرائه وأكثرهم خبرةً ومعرفةً بالنظريات الماليَّة والاقتصاديَّة. لا يُمكن أن يُفضي التقاء مُبتدئي الداخل مع مُبتدئي الخارج إلى أفضل من هذا المشروع الأكثر من سيِّئ. لا يُمكن أن تتَّضِح الرؤية ما لم يُعيَّن في صفوف مُبتدعي الخطط والمشاريع اقتصاديون من أصحاب الاختصاص والدِّراية بالنظريات الاقتصادية الأساسية التي ترتكز إليها الخطوات الماليَّة والنقديَّة.

في الوقت بدل الضائع، تحاول المنظومة “تَمرير” لا بل “تَهريب” قانون ال”كابيتال كونترول” عبر تسويقه وكأنَّه مفتاحٌ للحَلّ. يدفَعُنا الاستخفاف وعَدَم الجِدِّية في مقاربة جميع الملفَّات إلى الارتياب من أن يكون مشروع قانون ال”كابيتال كونترول” الأخير إحدى محاولات تغيير وجه لبنان المُنفتح على العالم عبر عَزلِهِ اقتصاديًا بعد تضييق الخِناق عليه سياسيًا. لا يمكن أن يكون تحديد السَّقف الشَّهري للسحوبات دون احتساب التضخُّم الداخلي (الناتج عن تداعيات الانهيار والتفلّت) والتضخُّم الخارجي (الناتج عن تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا) إلّا في إطار خطةٍ مُمنهجة لتجويع اللبنانيين وإذلالهم تمهيدًا لأخذهم إلى حيث لا تُريد غالبيتهم الذَهاب. إذا كانت إدارة الكتلة النقديَّة بالعملة الوطنية عبر سَحبِها مقابل ضَخّ الدولارات من أموال المودعين قد أمَّنَت توازنًا مُصطنعًا لِبَعض الوَقت، فاستمرار هذا النهج مع ازدياد التضخم يؤدي إلى الجوع بل إلى التطويع، وهذا أمرٌ مرفوض!

من المُستحيل تطبيق “كابيتال كونترول” من دون خطةٍ شاملة ومن دون إعادة هَيكَلة المصارف وتوحيد سعر الصَّرف، وهي إصلاحات يبقى تطبيقها مستحيلًا ما لم تُضبَط الحدود وتَبسُط الدولة سيادتها على جَميع أراضيها. بحسب البنك الدولي إن استعداد الحكومات لإجراء إعادة هيكلة للقطاع المصرفي أو تطبيق إصلاحات بنيويَّة لا يتوافق مع اقتراب موعد الانتخابات العامَّة. في هذا الإطار نسأل، لماذا لا تُطَبِّق المنظومة الحاكمة هذا المبدأ في لبنان؟ يَدفَعُنا هذا المَنطِق إلى التأكيد مَرَّةً جديدةً أنَّ الأزمة اللبنانية هي في اساسها سياسيَّة. لذلك يجب أن يُشَكِّلَ إرساء أرضيَّة مُشتَرَكة بالحدّ الأدنى تؤمّن استقرارًا سياسيًا مُستدامَ الخطوة الأولى على طريق الإصلاح.

يَبقى الإصلاح شعارًا فارِغًا إن عَجِزَت الدولةٌ عن تَطبيقه على جميع مواطنيها، وهم متساوون في حقوقهم وواجباتهم أمامها طوعًا أو بِسُلطَةِ دُستورِها وقوانينها.

حتَّى ذلك الحين يَضيع الوَقت والعُمر والأحلام ويَبقى الإيمان أنَّ يومَ قيامة لبنان آتٍ مَهما طالَ الزَّمان!

  • البروفسور نيكول بَلّوز بايكر هي أكاديمية وباحثة في الشؤون الاقتصاديَّة. والبروفسور مارون خاطر هو أكاديمي وباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @ProfessorKhater
  • يَصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى