فرنسا: يسارٌ راديكالي شريكٌ ليمينٍ مُتَطَرِّف

محمّد قوّاص*


منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مَثَّلَ اليمين المُتَطَرِّف في فرنسا تحدّيًا دائمًا للنظام السياسي في البلاد. تسلّح الشعبويون بخطابٍ قومي عصبَوي ضد تيارَي اليمين واليسار على السواء، تمسّكوا بالإيديولوجيات التي قامت عليها النازية والفاشية الأوروبية، وأخذوا مسافةً مُصطَنَعة من المرحلة الهتلرية على الرغم من أن سمات نظرتهم ونظرياتهم لا تختلف في منطقها الشوفيني العرقي العنصري عن ذلك العهد.

جان ماري لوبن هو واحد من أبرز وجوه ذلك اليمين المتطرف وهو مؤسّس حزب “الجبهة الوطنية” الذي ورثته ابنته مارين. أفكار الحزب مُتناسلة من أفكارٍ كان لها مُريدين داخل الكنيسة والمجتمع والمنظومة العسكرية ظلّوا ناشطين حتى بعد هزيمة النازية ومقتل زعيمها. ويَكشُفُ التمرّد الخطير الذي قامت به “منظمة الجيش السري” (1961-1962) في الجزائر واستخدامها الإرهاب دفاعًا عن “الجزائر الفرنسية” حجم الخطر الذي كان يتهدّد الجمهورية الفرنسية نفسها.

وعلى الرغم من الخصومة الاستراتيجية بين اليسار واليمين التقليديين، فإنهما، في مُكوِّناتهما الديغولية والاشتراكية والشيوعية وغيرها، بقيا مُتَّحدين في الموقف من اليمين المُتَطرف واضعين معاً، في مناسباتٍ إنتخابية عدة، لا سيما رئاسية، سدًّا منيعًا، تحت مسمى “الكتلة الجمهورية” ضد أيِّ إمكانية لتَقَدُّمِ اليمين المتطرف داخل مؤسسات الدولة. وسبق لتلك الأحزاب، من اليسار واليمين، أن دعت للتصويت لصالح المرشح جاك شيراك ضد منافسه جان ماري لوبن في العام 2002، ثم لصالح إيمانويل ماكرون ضد منافسته مارين لوبن في العام 2017.

لم تتردّد هذه الأحزاب كلّها، من الاشتراكي إلى الشيوعي مرورًا بالديغولي والخضر وأحزاب الوسط، في الدعوة فور صدور النتائج الأولية للدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية في 10 نيسان (أبريل) إلى التصويت لصالح ماكرون في الدورة الثانية لإغلاق أبواب الإليزيه أمام مرشحة اليمين المتطرّف مارين لوبن. وحده مرشح حزب “فرنسا الأبية”، زعيم اليسار الفرنسي جان لوك ميلونشون، شذّ عن هذه القاعدة اليسارية الجمهورية وابتكر دعوة ردّدها على نحو مسرحي مرات عدة: “لا تمنحوا أي صوت للسيدة لوبن”.

خرج ميلونشون من السباق الرئاسي في الدورة الأولى مُحتَلًّا المركز الثالث. حقّق هذا اليساري الصاعد نسبة اقتراع وصلت إلى حوالي 22 في المئة، فيما حقق مرشحا اليسار التاريخي (الاشتراكي-الشيوعي) نسباً كارثية (1.7-2.3 في المئة). لكن، على عكس دعوة الاشتراكيين والشيوعيين للتصويت لصالح خصم مرشحة اليمين المتطرف، لجأ ميلينشون إلى تكتيك ماكيافيلي يُمسك العصا من النصف ويزيد الغموض على اللغط في الدعوة إلى حرمان لوبن من أصوات مناصريه بدون الدعوة إلى التصويت لماكرون.

خيارٌ كهذا ابتسمت له لوبن وحزبها ومناصروها. عوّلت المرشحة على أصوات ستتمرّد على دعوة ميلينشون وتأتي لتصبّ لصالحها. لكنها عوّلت أكثر على أصوات ستمتنع عن التصويت ما يحرم ماكرون من تقدّمٍ واضحٍ ويُعزّز فرصها للفوز. ولم تستطع كل الأسئلة التي انهالت على ميليونشون خلال الأيام الفاصلة بين الدورتين من انتزاع موقف يُفهم منه دعوة ولو مُبَطّنة لدعم ماكرون، تاركًا “الخيار لذكاء الناخبين”.

في الساعات الأولى التي تلت نتائج الدورة الأولى لوَّح ميلونشون بالنأي بالنفس ولمّح إلى اعتكافٍ مُحتَمَلٍ بانتظار فرصةٍ أخرى قد تأتي في الرئاسيات المقبلة بعد خمس سنوات. لكن الرجل عاد وفاجأ ناخبيه وفرنسا باختراقه خطوطًا لطالما اعتُبِرَت حمراء في نصوص الخطاب اليساري. قدّم ميلنشون نفسه مُرَشَّحًا ليكون الوزير الأول لدى “أيٍّ من الفائزيْن”. بدت دهشة الصحافي الذي كان يستضيفه صاعقة مُستَفسِرًا بفضولٍ وقلق: “هل تقبل أن تكون رئيس حكومة لدى مارين لوبن؟”.

لا تخلو جعبة ميلونشون من أرانب يخرجها بمرونة ورشاقة ومهارة. تحدث الرجل بتباهي بأنه سيخوض “الدورة الثالثة” من الانتخابات. هي ديباجة قصَدَ بها الانتخابات التشريعية التي ستُخاض في فرنسا في حزيران (يونيو) المقبل. يعوّل ميلينشون على دفق ما حققه في الرئاسيات ليقود في البرلمان المقبل أغلبية مُحتَملة وازنة بإمكانها فرضه رئيسًا للوزراء لدى الرئيس الفائز، حتى لو فازت مارين لوبن. لم يعد اليمين المتطرف في عرف اليسار المتطرف حرامًا مُقزّزًا، بل وجهة نظر وأمر نسبي لا تجوز عليه أحكام كل أدبيات اليسار الكلاسيكية من وعائها الماركسي إلى حواضنها الديموقراطية الاجتماعية.

والحال أن ميلينشون، وهو اليساري ابن التجربة اليسارية بامتياز الذي لطالما صُنِّفَ في أقصى اليسار، بات يمتهن السياسة بصفتها وسيلة الوصول إلى السلطة بما يتيسر من أدوات وما يتوفّر من تحوّلات وما يُدبّر من تحالفات. والرجل لا يقود كتلة يسارية إيديولوجية ستنشَقّ عنه حين يرتكب هرطقة إيديولوجية، بل يتزعّم كتلة من الغاضبين من المنظومة الحاكمة، وليسوا بالغالبية مؤدلجين، بما يسهل عليهم هضم تقلبات الزعيم طالما بها ترياق الوصول إلى السلطة.

يشبه ميلينشون في براغماتيته المُفرطة تلك التي أقدمت عليها مارين لوبن خلال السنوات الأخيرة. غيّرت اسم حزبها لتنأى بنفسها عن حزبِ وصِيتِ والدها وراحت تُطوِّر خطابها ليصبح مطاطًا يُظلّل كتلًا ناخبة من يميٍن شعبوي عنصري قومي ومن كتل عمالية لطالما كانت من حصة يسارية العقيدة والمذهب والدين. الفرق أن لوبن وتيارها ما زالا يعتبران اليسار رجسًا وجب تجنّبه، فيما بدا لزعيم اليسار أن اليمين المتطرف وجهة نظر غاضبة قد تشبه غضب مناصريه.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى