آينشتاين وفرويد: لِـمَ الحرب؟ (2 من 2)

فرويد في متحف دوسو للشمع (لندن)

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذا المقال عرضتُ رسالةَ عالم الفيزياء أَلبرت آينشتاين (1879 – 1955) إِلى عالِـم التحليل السيكولوجي سيغموند فرويد (1856 – 1939)، وفيها أَسئلةُ الأَول طرحَها على الأَخير الذي يجيب عنها في هذا الجزء الآخَر من المقال.

فـيـيـنَّـا – أَيلول/سبتمبر 1932

 

السيد العزيز آينشتاين

حين دعوتَني إِلى تبادل الأَفكار حول موضوع يَهمُّك وبدا لكَ يهمُّ الآخرين، لم أَتردَّد في قبول الدعوة. فأَنتَ اخترتَ مسأَلةً يمكننا معًا، الفيزيائي والمحلل النفسي، أَن نصل إِلى حلِّها كلٌّ بطريقته حتى نلتقي عند نقطة واحدة، ولو انطلاقًا من نقطتَين  مختلفتَيْن.

فاجأْتَني بسؤَالك عما يمكننا فعْلُه لإِنقاذ البشر من تهديدات الحروب. بدايةً خفتُ من عجزي – كدتُ أَقول من عجزنا – لأَن هذه المسأَلة من مهامِّ رجال الدولة. لكنني استدركتُ أَنك لا تطرح المسأَلة كفيزيائيّ ورجُل علْم بل كإِنسان يستجيب لدعوة “جمعية الأُمم”، كما استجاب المبتكر فريدجوف نانسن حين تبرع بمساعدة الجائعين وضحايا الحرب العالمية الأُولى المحرومين من الوطن.

آينشتاين وفرويد: السائِل والمسؤُول

على ضوء الامتحان النفسيّ

لا تنتظر مني أَن أُعطيكَ اقتراحات عملية بل سأَكتفي بتحليل إِنقاذ السلام على ضوء الامتحان النفسي، مع أَنك في رسالتكَ إِليَّ أَوردتَ ما سيأْتي في بعض إِجاباتي، لكنني سأُحاول أَن أُجيب بما تتيح لي معارفي وتجاربي.

سأَلْتَني عن التمييز بين الحق والقوة. أَنطلق من سؤالكَ فأَستبدل كلمة “القوة” بكلمةٍ أَقسى: “العُنف”. الحق والعنف يبدُوَان لنا اليوم متناقضَيْن. فالأَول منبثق من الآخَر، وبالعودة إِلى الجذور الأُولى يسهل الوصول إِلى حل المسأَلة بلا صعوبة. فسامحني إِن أَتيتُكَ بعناصر جديدة هي إِجمالًا وقائع معروفة ومعتَرَف بها، وتسلسل المعطيات يفرض ذلك عليّ.

إِن تضارب المصالح الناشبة بين الناس يحلُّها العنف. هكذا في المملكة الحيوانية التي ليس الإِنسان خارجَها. لكن الإِنسان يتميز عن الحيوان بنزاعات في الرأْي يتطلب حلُّها مقاربة مغايرة لم تظهر إِلَّا لاحقًا. في البدء كان تَفَوُّق القوة الجسدية هو الذي يقرر انتصار فريق يفرض تطبيق إِرادته. ويعاضد القوةَ الجسدية استعمالُ الأَدوات، فيكون الانتصار لمن يمتلك أَقوى الأَسلحة أَو لمن يستعملها بمهارة أَكثر. ومع دخول السلاح في المعادلة، بدأَ التفوُّق الفكري يعلو على القوة الجسدية. لكن  الهدف الأَخير في الصراع يظل هو ذاته: على أَحد الفريقين أَن ينصاع للضرر الذي يصيبه فتنشلُّ قواه ويتخلّى عن عداوته ومعارضته.

فرويد في آخر صورة له

للعنف إيجابيَّتان

هذه النتيجة تتّضح حين العنف يُلغي الخصم نهائيًّا، وتاليًا يقتله. ولهذه النتيجة إِيجابيَّتان: شلل الخصم فلا يعيد القتال في ظرف آخَر، وثبات مصيره عبرةً للآخرين فلا يفعلون مثله.

في قتل العدوّ إِرضاءُ موقفٍ غريزيّ. ففي حال عدم القتل قد يقترف العدُوُّ تصرفاتٍ مفاجئة إِن بقي حيًّا ولم يُقْتَلْ. في هذه الحالة يكتفي العنفُ بالإِذلال عوض القتل، شرط أَن يتنبَّه المنتصر إِلى تجنُّب انتقام العدوّ المنهزم عند تخلِّيه عن أَمنه الخاص.

هذه كانت سيطرة القوة المتفوقة على العنف الفظّ أَو المدعوم فكريًّا. إِنما مع مرور الزمن، تغيرت المعادلة وأَخذ طريق العنف يُؤَدي إِلى الحق. أَيُّ طريق؟ لا أَرى إِلَّا واحدًا: توحيد مجموعة ضعفاء. من هنا أَن “الوحدة تشكِّل القوة”. فالعنف تغلبُهُ الوحدة، وقوة الضعفاء مجتمعين تقوى على العنف. من هنا أَنَّ الحق هو في القوة الجَماعية. العنف عادةً يقوى على كل فرد يقاومه، بالأَساليب ذاتها من أَجل الأَهداف ذاتها. عندها لا ينتصر عنف الفرد بل عنف الجماعة. ولكي يتم هذا العبور من العنف إِلى الحق يلزم شرط نفسي: أَن تبقى وحدة العدد ثابتة ودائمة. فهي إِذا قامت ظرفيًّا لهدف واحد: قتال عدو أَقوى منها ثم تَلاشيها بعد الانتصار عليه، تكون النتيجة ملغاة، لأَن أَول من يأْتي بعدذاك ويدَّعي أَنه الأَقوى، سيبحث من جديد عن بسط هيمنة عنفه، وتعود اللعبة من جديد بلا نهاية. إِذًا على الجماعة أَن تكون متَّحدةً باستمرار، أَن تتنظَّم، أَن تجترح أَنظمةً تقيها مفاجآت مقبلة، فتُعيِّن من يسهرون على ديمومة الأَنظمة والقوانين ويؤَمِّنُون تنفيذ ما يطبِّق تلك القوانين. هذا هو الضروري في توحيد مصالح الجماعة التي تنشأُ بين أَعضائها علاقات عاطفية إِنسانية تتأَسس عليها قوة تلك الجماعة.

تطوير الوعي الثقافي يغلب الحروب

ختامًا: أَظنُّني أَوضحتُ لكَ كيفية انتصار العنف حين تنتقل السلطة إِلى وحدة متماسكة تربط بين أَعضائها علاقات عاطفية إِنسانية. والنتيجة واضحة حين لا تتشكَّلُ الجماعة إِلَّا من أَعضاء متعادلي القوة. عندئذٍ تقوى قوانين الشراكة، تتجلَّى مظاهر قوَّتها الجَماعية فتذوب فيها حرية شخصية يجب أَن يتخلَّى الفرد عنها  كي تتواصل حياة الجماعة بكل أَمان.

إِلى متى يدوم هذا الأَمان؟ لا يمكننا التكهُّن. وليس طوباويًّا أَن نتصوَّر – لوقف الحروب في المستقبل – بزوغَ عنصرَين فاعلَين: الوعي الثقافي والتنبُّه من ارتدادات مفاجئة. وبانتظار ذلك يمكننا القول إِنَّ من يعمل على تطوير الثقافة، يكون يعمل أَيضًا ضد الحروب.

أُحيِّيك بإِخلاص، وسامحني إِن كنتُ لم أُجب بما يكفي لإِرضاء أَسئلَتِك.

سيغموند فرويد.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى