كَيفَ تَتَحَرَّكُ دولُ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتَعزيزِ الأمنِ الغذائي؟

زاد الغزو الروسي لأوكرانيا من مخاطر انعدام الأمن الغذائي الإقليمي، حيث يستورد العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حصة كبيرة من واردات الحبوب من روسيا وأوكرانيا.

الزراعة في الإمارات: زاد الاهتمام بها كثيرًا بعد حرب أوكرانيا.

محمد سليم*

تُكثِّفُ دولُ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا جهودها لزيادة أمنها الغذائي، حيث شكّل الغزو الروسي لأوكرانيا أحدث حدث جيوسياسي للتأكيد على هشاشة سلاسل التوريد العالمية، فضلًا عن أهمية الاكتفاء الذاتي الزراعي.

تُمثّل روسيا وأوكرانيا معًا حوالي 29٪ من إمدادات القمح في العالم، ما يشير إلى الخطر الكبير –من حيث التوافر والسعر– على البُلدان الرئيسة المستوردة للحبوب نتيجةً للصراعِ المُتصاعد.

تُعَدُّ مصر أكبر مستوردٍ للقمح في العالم، حيث يأتي ما يقرب من 70٪ من إمداداتها من روسيا وأوكرانيا، وفقًا لأرقام العام 2019 الصادرة عن “مرصد التعقيد الاقتصادي” (Observatory of Economic Complexity) التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT). من جهتها، تستورد دولة الإمارات ما يقرب من نصف قمحها من روسيا، في حين أن السعودية هي أكبر مستورد للشعير في العالم، حيث تستخدمه كعلف للحيوانات، ويأتي معظم إمداداتها من روسيا وأوكرانيا.

الأمن الغذائي في دول مجلس التعاون الخليجي

في بداية جائحة كوفيد-19 استوردت دول مجلس التعاون الخليجي حوالي 85٪ من غذائها. تم استيراد كل الأرز المُستَهلَك في المنطقة تقريبًا، بالإضافة إلى حوالي 93٪ من الحبوب، وحوالي 62٪ من اللحوم، و56٪ من الخضار.

كان لاضطراب سلسلة التوريد الناجم عن الوباء تأثيرٌ فوري في المنطقة، ما دفع دول مجلس التعاون الخليجي إلى تكثيف البرامج الحالية لتعزيز الأمن الغذائي.

أحد الأمثلة على ذلك هو برنامج التنمية الريفية الزراعية المستدامة في المملكة العربية السعودية (2018-2025). ومن الأمثلة الأخرى الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي في قطر (2018-2023)، والتي تهدف إلى جعل الدولة مكتفية ذاتيًا بنسبة 30٪ من اللحوم الحمراء، و 70٪ مكتفية ذاتيًا من البيض والخضروات المنتجة في الدفيئة، و95٪ مكتفية ذاتيًا من الأسماك الطازجة، واكتفاء ذاتي بنسبة 100٪ في منتجات الألبان الطازجة والدواجن والروبيان بحلول العام 2023.

كما شجع الوباء الحكومات في المنطقة على زيادة تركيزها على الابتكار، والذي يُنظر إليه على أنه ضروري لتعزيز الإنتاجية وتحسين إدارة المياه.

بين العامين 2014 و2020، اجتذبت 33 صفقة استثمارية في الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الزراعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو 250 مليون دولار من الاستثمارات. ومع ذلك، فقد حصل جُزءٌ كبير من هذا في العام 2020 استجابة للوباء.

وتُمثّل دولة الإمارات العربية المتحدة المثال الأبرزفي هذا المجال، حيث بات الأمن الغذائي فيها يشكل هدفًا إستراتيجيًا تسعى الدولة إلى تحقيقه خلال السنوات القليلة المقبلة، وقد زاد اهتمام الإمارات خلال السنوات الماضية بالزراعة، حيث تم إنشاء وزارة معنية بالأمن الغذائي، كما ركّزت الدولة على توظيف التكنولوجيا ودعم الأبحاث العلمية في قطاع الزراعة. حيث أعلنت أبوظبي عن استثمار بقيمة 100 مليون دولار في أربع شركات للتكنولوجيا الزراعية، وهي الأولى في برنامج دعم التكنولوجيا الزراعية الأكبر الذي تبلغ قيمته 272 مليون دولار. وتشمل مزارع مدار، وهي شركة محلية مهمتها معالجة تحديات الأمن الغذائي والمائي في المنطقة؛ ” Aerofarms”، شركة الزراعة العمودية مقرها الولايات المتحدة؛ “RDI” (الري بالتنقيط المستجيب)، وهي شركة ناشئة تعمل على تطوير نظام ري جديد يجعل من الممكن زراعة النباتات في التربة الرملية و”RNZ”، وهي شركة ناشئة تعمل على تطوير الأسمدة لزراعة المزيد من الغذاء بكفاءة أكبر.

و تُمثّل إمارة أبوظبي نموذجًا يُحتذى به للبلدان الطامحة لتحقيق الاستدامة الزراعية، حيث حققت إنجازات مهمة في تنمية القطاع الزراعي، وتحويل الصحراء إلى ساحات خضراء ومزارع مُنتجة. فخلال العقود الماضية تضاعفت مساحة الأراضي الزراعية 33 مرة من 22 ألف دونم إلى أكثر من 750 ألف دونم في الفترة نفسها. كما عملت على تجارب زراعية نوعية وتبنّي تقنيات حديثة ذات كفاءة عالية في الزراعة، مثل تقنيات الزراعة المحمية والزراعة المائية والزراعة في بدائل التربة، واستخدام الأنظمة الذكية والتقنيات الحديثة بالري والتسميد والتحكم بنوعية المياه. وخصصت أخيرًا 30 مليون دولار على شكل حوافز مالية لشركات التقنيات الزراعية التي تتطلع إلى تأسيس أعمالها أو تنميتها في الإمارة بهدف تعزيز إمكانات وابتكارات التقنيات الزراعية المحلية.

و لدى الإمارات العربية المتحدة القدرة على أن تلعب دورًا رئيسًا فى مجال الزراعة العمودية، وذلك بسبب مناخها ودعم الحكومة لمثل هذه الابتكارات فى مجال التكنولوجيا الزراعية، وهذا يجعلها أكثر الأماكن مثالية لتطبيق مثل هذه التكنولوجيا واختبارها. وتسمح تقنية الزراعة العمودية فى الإمارات للمزارعين والشركات زراعة الخضروات والمنتجات الطازجة، وهذا يعنى إنتاج طعام من الصحراء مثل الخس والذي يستعمله العديد من المطاعم والفنادق فى أنحاء الامارات، والآن توجد دراسات وأبحاث حول إنتاج البطاطس بنظام الزراعة العمودية.

ومن أهم التجارب التى قامت بها الإمارات فى مجال الزراعة الذكية استخدام تقنية “الانبعاث الضوئي” والتي تعتمد على أسلوب الزراعة العمودية بدون تربة أو مبيدات زراعية، كما أنها تختصر الفترة الزمنية لجني المحاصيل بنسبة كبيرة بدون أن تؤثر على خصائصه الغذائية. تتميز هذه التقنية بإعادة تدوير المياه وتوفير الطاقة المستخدمة، مما يجعلها صديقة للبيئة.

وقد   أطلق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي فى أيار (مايو) 2021 المرحلة الأولى من مشروع “وادي تكنولوجيا الغذاء” وهدفه مضاعفة إنتاج دبي الغذائي ثلاث مرات، إذ يمثل مدينة عصرية متكاملة تدمج مفاهيم الإدارة المتكاملة للغذاء ضمن أنشطتها وتسعى إلى استقطاب العقول المبدعة والشابة لرسم مستقبل الغذاء. وتتمثل رؤية المدينة في أن يصبح هذا المشروع الرائد الأول من نوعه في المنطقة ليكون العلامة التجارية والمرجع الأول لاستدامة نظم إدارة الغذاء على المستويين الإقليمي والعالمي. ويهدف المشروع في مرحلته الأولى إلى توفير مقوّمات التخطيط الحضري والتطوير العمراني المتكامل متنوع الأنشطة لإدارة الغذاء بناء على نهج الابتكار، كما يهدف إلى تنمية الإنتاج المحلي من الأغذية ذات القيمة والتنافسية العالية. ويضم المشروع مزارع عمودية، ومركزًا للأنظمة اللوجستية، وآخر للبحث والتطوير، ومنطقة للتسوق. كما سيُشكّل مشروع وادي تكنولوجيا الغذاء في دبي المنصّة الرئيسة للبحث والتطوير والبحوث التطبيقية لخدمة مزارعي ومنتجي الغذاء في دولة الإمارات. يتكوّن مشـروع وادي تكنولوجيـا الغـذاء من أربع مناطق أساسية هي: منطقة الهندسة والتكنولوجيا الزراعية، وحاضنات ابتكار الأغذية، ومركز البحث والتطوير، ومنطقة الأنظمة اللوجستية.

 من ناحية أخرى، تم توقيع مذكرة تفاهم فى شباط (فبراير) 2019 بين وزارة التغيّر المناخي والبيئة ووزارة الزراعة والأغذية الكورية من أجل التعاون بين البلدين فى مجالات عدة سواء البحثية أو التطبيقية منها توظيف التكنولوجيا الذكية ونظم الزراعة المغلقة والعمودية، وخفض انبعاثات غازات الإحتباس الحراري، رعاية وصحة الحيوان، بالإضافة الى زراعة الأرز، وتم الاتفاق على الإطار العام لبدء العمل على الدراسة التجريبية لاختيار أصناف أرز تتحمّل البيئة الصحراوية، وقادرة على التكيّف والتعايش مع أجواء الإمارات. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 بدأت تجارب الزراعة الأولية على مساحة 2,200 متر مربع وريّها بنظام التنقيط تحت السطحي لزيادة كفاءة استخدام المياه. تمت عملية الزراعة بنجاح وتم حصاد المحصول في أيار (مايو) 2020، وأظهرت نتائج الحصاد الأولية نتائج مميزة من حيث النمو والإنتاج.

بالتوازي مع هذه الجهود، كان هناك تركيز أكبر على التعاون الإقليمي عندما يتعلّق الأمر بالأمن الغذائي. في وقت مبكر من الوباء، تبنّى مجلس التعاون الخليجي اقتراحًا كويتيًا لإنشاء شبكة إمدادات غذائية مشتركة عبر الكتلة.

بدافع من المخاوف بشأن تعطيل التجارة المرتبط بـكوفيد-19، وافقت البلدان الخليجية على وضع ترتيبات خاصة في مراكز مراقبة الحدود والجمارك، من أجل تسهيل حركة الإمدادات الغذائية والطبية الأساسية داخل التحالف المُكوَّن من ستة أعضاء.

وبالمضي قدمًا، يمكن أن يساعد التعاون الإقليمي الأكثر بساطة البلدان الخليجية على تقاسم عبء ضمان الأمن الغذائي.

الأمن الغذائي في شمال إفريقيا

في شمال إفريقيا، كما هو الحال في دول مجلس التعاون الخليجي، من المُسَلَّم به على نطاقٍ واسع أن الحلَّ الأكثر استدامة وطويل الأمد لتحديات الأمن الغذائي هو التحوّل نحو التكنولوجيا الزراعية، وتحسين إدارة المياه والطاقة الخضراء. وتُحرز سلسلة من المبادرات الجارية في المنطقة تقدّمًا في هذا الصدد.

في حين أن الصورة في المدى القصير قد تكون صعبة، إذا تمّ توحيد هذه المبادرات وتوسيعها في المستقبل، فإن التوقعات في المدى المتوسط ​​إلى المدى الطويل تكون أكثر إيجابية.

تُقدِّمُ مصر العديد من الأمثلة على مثل هذه المبادرات. فهي تمتلك القوة الزراعية في المنطقة، حيث تمثل أكبر منطقة ري بين دول حوض النيل الإحدى عشرة. تستهلك الزراعة أكثر من 85 في المئة من حصة البلاد من نهر النيل، الذي يوفر الجزء الأكبر من إمدادات المياه لمصر. في كانون الأول (ديسمبر) 2020، بدأت الحكومة المصرية تجربة نظام ري متنقل جديد كجزء من استراتيجية وطنية لاستخدام طرق الري الحديثة. قامت وزارة الموارد المائية والري بالشراكة مع جامعة “MSA” في القاهرة بإنشاء جهاز محمول باليد لقياس درجة رطوبة التربة الزراعية. يُرسل الجهاز رسالة إلى الهاتف المحمول للمَزارع بخصوص مستويات المياه، لمساعدتها على اتخاذ القرارات المناسبة بشأن محاصيلها. في مصر، يلعب القطاع الخاص دورًا رئيسًا في قيادة مبادرات الزراعة الذكية. يساعد تطبيق “IrriWatch” -الذي تم تطويره في هولندا – المزارعين على تحسين الري باستخدام تقنية “الاستشعار الافتراضي” التي تستخدم قياسات الأقمار الاصطناعية الحرارية المختلفة لاكتشاف إمكانات مياه التربة وبيانات رطوبة التربة.

إلى جانب المبادرات الحكومية المختلفة، يعمل عدد من الشركات الناشئة المصرية على معالجة هذا النقص.

السماد، على سبيل المثال، يتحلل من فضلات الحيوانات لإنتاج المياه والغاز الحيوي والأسمدة النباتية. تعمل هذه العملية على تحسين جودة المحاصيل، وتعزيز تنمية الاقتصاد الدائري – ولأن نفايات الحيوانات يُعاد استخدامها بدلًا من إغراقها في الأنهار، فإنها تعمل على تحسين جودة المياه.

في مكانٍ آخر في الفضاء الزراعي، تأسست شركة “أغريماتيك” (Agrimatic) الناشئة في العام 2014 وهي مُكرَّسة لتطوير حلول زراعية بدون تربة، بينما يوفر “موزار 3” (Mozare3) تطبيقًا يربط المزارعين بالمُشترين المؤسَّسِيين، حيث جمع 1.1 مليون دولار في جولة تمويل ما قبل البذور في العام الماضي.

وبالمثل، في المغرب، تُعتبر التكنولوجيا الزراعية أولوية لكلٍّ من الحكومة والقطاع الخاص. في العام 2020، أطلقت الحكومة خطتها للجيل الأخضر 2020-2030 والتي تهدف، من بين أهدافٍ أخرى، إلى زيادة الرقمنة وإدخال تقنيات جديدة.

شركة “أغري إدج” (AgriEdge) هي إحدى الشركات الناشئة الرائدة في المملكة، والتي تم إنشاؤها في العام 2017 من قبل المكتب الشريف للفوسفاط –وهو شركة أسمدة متعددة الجنسيات- وتم احتضانها في جامعة محمد السادس للفنون التطبيقية.

تشمل التقنيات التي تستخدمها “أغري إدج” في المغرب وخارجها الري المُحَدَّد الدقيق، والذي يتضمن نشر صور الأقمار الاصطناعية وأجهزة الاستشعار لإدارة استخدام المياه، ويمكن أن تقلل من كمية المياه المستخدمة في منطقة معينة بنسبة 25٪.

وبالمثل، في تونس أحد الأمثلة البارزة هو شركة ” Ezzarya”، وهي شركة تقوم بتركيب أجهزة استشعار في أنابيب الري وفي التربة. يتيح الصندوق اللاسلكي المتصل بالبرنامج للمزارعين تنظيم ملوحة التربة وحقن الأملاح المعدنية التي قد تكون ضرورية لتحسين غلة المحاصيل. يمكن إدارة عمليات الري والتسميد مركزيًا بفضل النظام، وهو قادر أيضًا على تحديد تسرب بالتنقيط.

بينما لا يزال مجال التكنولوجيا الزراعية التونسي في مراحله الأولى، هناك العديد من المبادرات الجارية لرعايته.

على سبيل المثال، عُقد مؤتمر الأسبوع التونسي للتكنولوجيا الزراعية في داكار، السنغال، في الفترة من 13 إلى 17 آذار (مارس)، بهدف بناء التعاون بشأن الاكتفاء الذاتي الغذائي بين قطاعات التكنولوجيا الزراعية في البلدين.

  • محمد سليم هو صحافي لبناني من أسرة “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى