أوكرانيا وآفاقُ التَصعيدِ القائم 

الدكتور ناصيف حتّي*

كانت منطقة الشرق الاوسط تُعتَبَرُ قلب الصراع  الدولي بسبب أهمّيتها الكبرى في الجغرافيا السياسية كما في الجغرافيا الاقتصادية. وبدات منطقة المُحيطَين الهندي والهادىء ”سرقة” الأولَوِيّة أو مركز الصدارة من الشرق الاوسط في السنوات القليلة الأخيرة. حصل هذا بسبب تصاعد حدّة التنافس و المواجهة الأميركية-الصينية في ذلك “المسرح الاستراتيجي“ الذي يحوي ستين في المئة من الثروة العالمية وثلاثة أخماس سكان العالم. لكن انفجارَ الحربِ في أوكرانيا، والموقع الاستراتيجي المهم لهذه الدولة على حدود روسيا الاتحادية، والاصطفافات التي أدّت إليها هذه الحرب، أو تحديدًا المواجهة الغربية-الروسية، اعادت الأولوية الى “المسرح الاستراتيجي” الأوروبي في الصراع الدولي. وللتذكير فإن الحربَين العالميتَين الأولى والثانية انطلقتا من ذلك المسرح الاستراتيجي.

ونُسارِعُ إلى القول إن المُقارَنةَ التاريخية تهدِفُ إلى التذكيرِ بأهمّية هذا المسرح الاستراتيجي بقواه الكُبرى والمُتصارعة بدون أن يعني ذلك بتاتًا احتمال حصول حربٍ مُشابهة للحربَين المذكورتين لتغيُّرِ الظروفِ والمُعطَيات الموضوعية كلِّيًا. لن تحصلَ حربٌ عسكرية على الصعيد العالمي، ولكن الحربَ الدائرة على”المسرح الأوكراني”، وهي في بُعدِها الأساسي حربٌ غربية-روسية بالوكالة، ستكون لها كما نشهد تداعياتٌ عالمية على كافة الصُعُد من الاقتصادي، إلى السياسي، إلى المالي والى الصحّي. فأسعار الغاز الطبيعي استمرّت في الارتفاع في أوروبا مع استمرار المخاوف من المخاطر على استمرار تدفق إمدادات الغاز إلى “القارة العجوز” باعتبار أن الأراضي الأوكرانية هي أحد الممرّات الرئيسة للغاز الروسي. ولا تكفي طمانة المُفَوَّض الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الاوروبي، جوزيب بوريل، بأنَّ أوروبا ستَستغني عن الغاز الروسي خلال عامين لتخفيض تداعيات الأزمة في هذا المجال على الإقتصاد الأوروبي وعلى المواطن في أوروبا.

من ناحيةٍ أخرى، حذّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للامم المتحدة (الفاو) من الارتفاع الهائل في أسعار المواد الغذائية بسبب الانخفاض الكبير في حجم التصدير من “مسرح الصراع” إلى الدول المُستَورِدة. كما اعترف رئيس الوزراء الروسي، ميخائيل ميشوستين، أن بلاده تُواجِهُ أوضاعًا صعبة لم تُواجِهها منذ عقودٍ ثلاثة. ولكن هذا “الاعتراف” من المسؤول الروسي لا يعني أن روسيا ستتراجع عن أهدافها الاستراتيجية في هذه الحرب لأهمّيتها الحيوية للأمن القومي الروسي.

ويبدو أنه، إلى جانب الحرب العسكرية وفي ظلِّ عدم التقدّمِ الفعلي حتى الآن في المفاوضات، تتّجه الاستراتيجية الروسية إلى إعادة التموضع العسكري في المنطقة الجغرافية الحيوية لروسيا، منطقة الدونباس. المنطقة التي تضمُّ “جمهوريتَي” لوغانسك ودونتسك، القريبتَين أساسًا في الانتماء لروسيا، والتي اعترفت موسكو باستقلالهما أخيرًا من دون أن تكونَ لهذا الاستقلال أيُّ نتيجةٍ على وضعهما على الصعيد الدولي، أو على صعيد الأمم المتحدة.

والواقع أن هذا التموضع الجديد قد يُخفِّضُ من مستوى التكلفة الروسية لاستمرار الحرب على كافة الصُعُد، وقد يُوَجِّهُ رسالةً إلى الأطراف العدوّة بأن روسيا تُمسِكُ بهذه الورقة الأساسية في الصراع. كما تؤكّد على أهمّيتها بالنسبة إلى موسكو في أيِّ مشروعِ تَسويةٍ سلمية للحرب الدائرة. إن الإعترافَ الدولي مُستَقبَلًا باستقلال هاتين “الجمهوريتين” شبه مُستحيل، لأنه يؤسّس لسابقةِ خَلقِ فوضى دولية في شأن عدم الحفاظ على الوحدة الترابية للدول القائمة. ولكن الأطراف الغربية المعنية بهذا النزاع قد ترضى بصيغةٍ أقل من الاستقلال. صيغةٌ تُعزِّزُ الوضعية الخاصة، ولو بشكلٍ غير مُعلَن، لموقع روسيا ونفوذها في هاتين “الجمهوريتين” في التسوية الأساسية عند التوصّل إليها. فعدم التوصّل إلى حلٍّ حسب الشروط الروسية لهذا الملف سيعني بقاء روسيا كضامنة بالقوّة لاستقلالٍ فعلي ولو غير قانوني لهاتين “الجمهوريتين”، كما هي حال جمهورية شمال قبرص التركية. وبالطبع تودّ موسكو الحصول على هذه  الضمانة إلى جانب، بالطبع، عدم  انضمام أوكرانيا إلى منظمة حلف شمال الاطلسي. كذلك تودّ روسيا من الغرب القبول بالضم القانوني لشبه جزيرة القرم، التي تُسيطر عليها، إليها، أو إيجاد صيغة تسوية لهذا الموضوع. والطريق ليس قصيرًا بعد للتوصّل إلى التسوية النهائية حسب حرب الشروط المُتبادَلة. ويمكن تقليص مساحة النزاع وتخفيضه مع الوقت وتحويله إلى هدنة عبر الاعتراف غير الرسمي بالطبع، والموقّت بدون تحديد إطارٍ زمني،، بالنفوذ الروسي في الدونباس. المنطقة التي ستصبح حدود الأمر الواقع بين روسيا من جهةٍ وأوكرانيا وحلفائها الغربيين من جهةٍ أُخرى، إلى أن يحين موعد التسوية التي تستدعي توافقًا غربيًا-روسيًّا أشمل وأبعد من أوكرانيا. والنزاع ما زال مفتوحًا في الزمان ولو كان من الممكن تقييده في المكان.

أخيرًا، هناك مُفارقة لا بدَّ من الإشارةِ إليها وقوامها أن روسيا تُريدُ من أوكرانيا أن تعتمدَ النموذج الفنلندي أو السويدي، فيما الحرب القائمة تدفع بالدولتين الأخيرتين الى التفكير بالتخلّي عن الحياد والتوجّه نحو الانضمام إلى الحلف الاطلسي، مُسقِطَتَين بالتالي حيادهما التاريخي.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى