صِراعٌ بلا نهاية

خضر خضّور *

بعد 11 عامًا على بدءِ الانتفاضة في سوريا واندلاع حروبٍ داخلية مُتَعَدِّدة تلتها، أصبح الصراع السوري اليوم محصورًا في قوسٍ يربط شمال شرق البلاد بالشمال الغربي. وقد أدّى هذا التحوّل في طبيعة النزاع، الذي انتقل من المناطق النائية في سوريا إلى الحدود مع تركيا، إلى خلق ساحةِ معركةٍ جديدةٍ للاعبين الرئيسيين في الصراع.

في هذه المنطقة، يُشكّلُ الأمن والتركيبة السكانية والنشاط الاقتصادي نظامًا بيئيًا واحدًا على طول الحدود بأكملها. في الوقت نفسه، فإن المناطق المُتعدّدة التي خرجت من الصراع تتناقض من حيث الأهداف السياسية التي يجري السعي وراءها في كلٍّ منها. وهذا يجعل المنطقة الحدودية بأكملها هشّة وخاضعة للتصعيد العسكري في أي لحظة. مع عدم وجود نهايةٍ تلوحُ في الأفق للحرب، ستظل المنطقة مصدر قلق بسبب قدرتها على إحداث جولاتٍ جديدة من العنف.

تعود جذور النظام الأمني ​​على طول الحدود التركية – السورية إلى صيف العام 2012. لقد أدّى تسهيل تركيا لتدفّق الأسلحة إلى الجماعات المعارضة لنظام الأسد في نهاية المطاف إلى سيطرة هذه الجماعات على أجزاء كبيرة من شمال سوريا، بما فيها نصف مدينة حلب التي انسحب منها النظام في حزيران (يونيو) من ذلك العام. وهذا الأمر قاد النظام إلى قلب الطاولة على تركيا من خلال تسليم البلدات الحدودية الكردية في عفرين وكوباني وعامودا إلى وحدات حماية الشعب التي يُهيمن عليها الأكراد، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي. كلاهما يعمل تحت مظلة حزب العمال الكردستاني، الذي انخرط في صراع مع تركيا منذ نهاية السبعينات الفائتة، بهدف تحقيق الحكم الذاتي في شرق تركيا. تحوّلت هذه المناطق الحدودية إلى جبهاتٍ نشطة خلال الحرب في سوريا، ومع ظهور الجماعات الجهادية هناك، اتّسمت بإعادة الهيكلة الاجتماعية الرئيسة التي تُشارك فيها جهاتٌ محلية وإقليمية.

لقد حوّلت الخيارات الاستراتيجية للحكومة التركية والنظام السوري منطقة الحدود الشمالية لسوريا إلى واحدة من أكثر مناطق الشرق الأوسط تسليحًا، إن لم تكن الأكثر تسليحًا. وينتشر مئات الآلاف من المقاتلين في إدلب وعفرين ومناطق شرق نهر الفرات، إضافة إلى قوات النظام والميليشيات المدعومة من إيران المتمركزة على طول خط جنوب الفرات. المفارقة هي أنه بدون وجود قواعد أميركية صغيرة، وقوات تركية، ووحدات عسكرية روسية، سيكون الشمال في حالة حرب مستمرة. لكن وجود هذه القوات الدولية، بدلًا من ذلك، جعل المنطقة عرضة للمساومة، وتحديدًا بين روسيا وتركيا.

يُراهِنُ الروس، مثل نظام الأسد، على أن الوضعَ سيؤدّي في الوقت المناسب إلى اتفاقٍ حول أمن الحدود على أساس اتفاقية أضنة لعام 1998 بين سوريا وتركيا. أعطى هذا الاتفاق للجيش التركي الحق في دخول الأراضي السورية لمسافة تصل إلى 5 كيلومترات لملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني عند الحاجة. نفّذت تركيا الاتفاق عمليًا خلال الصراع السوري، لكن العلاقة الأمنية بين أنقرة ونظام الأسد لم تعد قائمة. لاستعادة هذه العلاقة اليوم، على الأتراك السماح للنظام وروسيا بهزيمة هيئة تحرير الشام في الغرب في إدلب، مقابل ضمانات أمنية بأن يتم تفكيك قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، وهي تحالف لمجموعات مسلحة التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب، في الشرق.

لكن نظام الأسد غير قادر على تنفيذ مثل هذا الاتفاق، بسبب عوامل متنوعة، بما في ذلك الفساد ونقص الموارد وهجرة التكنوقراط وتراجع قدرة مؤسسات الدولة بسبب الحرب. في جنوب سوريا، تمكّن النظام من السيطرة على كامل الحدود مع الأردن، وبدعمٍ من روسيا فكّك الهياكل العسكرية والمدنية للمعارضة، مما أجبر العديد من السكان على الفرار إلى الشمال. وقد أدّى ذلك إلى تعطيل نظام الحكم الذي وضعه المتمردون في الجنوب وتحويل المنطقة إلى مناطق أمنية عدة. في الشمال، الصورة أكثر تعقيدًا. هناك يوجد ملايين المدنيين ونشاط اقتصادي على طول الحدود بأكملها. ستؤدي عملية عسكرية إلى كارثة إنسانية هائلة على طول الحدود مع تركيا، وهذا الوضع لم يكن موجودًا مع الأردن.

واليوم، يقتصر الصراع في سوريا على شمال سوريا، فيما تحاول جميع الجهات المحلية والإقليمية المتنافسة تعزيز مواقفها ومواقعها قبل المرحلة المقبلة. بغض النظر عمّا يُمَيِّزُ هذه المرحلة –سواء كانت ترتيبات سياسية أو تصعيدًا عسكريًا– فقد أوجدَ الصراع وضعًا يُحاولُ كلٌّ من نظام الأسد وتركيا تغييره. ويسعى النظام للتقدم في الشمال الغربي واستعادة إدلب من هيئة تحرير الشام، بينما تريد تركيا أن تفعل الشيء نفسه في الشمال الشرقي وهزيمة قوات سوريا الديموقراطية. نظرًا إلى أن القوس الشمالي لسوريا أصبح خاضعًا لعدم الاستقرار الدائم، ولأن لا تركيا ولا نظام الأسد لن يكون راضيًا حتى يتمكّن من تأمين أهدافه العسكرية، فسيكون من الصعب للغاية على الأطراف التوصل إلى تفاهمات متبادلة في المدى القريب.

  • خضر خضّور باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. تُركّز أبحاثه على العلاقات المدنية-العسكرية والهويات المحليّة في المشرق العربي، مع تركيز خاص على سوريا.
  • تم إنتاج هذا المنشور بدعم من “X-Border Local Research Network، وهو برنامج مُمَوَّل من “يوكاي إيد” (UK aid) التابعة لحكومة المملكة المتحدة. الآراء المُعَبَّر عنها في هذا المقال لا تعكس بالضرورة السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى