مخرجات فيينا: “الحرس” يَستَبِقُ الاتِّفاق!

محمّد قوّاص*

للهَجَماتِ الأخيرة التي شنّتها ميليشيات الحوثي ضد السعودية توقيتٌ يتجاوز سياقات المعارك في اليمن. استَهدَفَت الاعتداءاتُ بُنى النفط التحتية في المملكة في وقتٍ باتت أزمة الطاقة الشغل الشاغل للعالم أجمع منذ انطلاق العمليات العسكرية في أوكرانيا في 24 شباط (فبراير).

وعلى الرغم من تنبيه الرياض للعالم إلى أن السعودية “لن تتحمّل المسؤولية عن نقصِ إمداداتِ النفط في الأسواق العالمية الناجم عن هجمات الحوثيين على منشآتها النفطية”، فإن استمرار تلك الهجمات تَقَصَّدَ، في موسم النقاش الدولي لتخفيف الضغوط عن أسواق الطاقة في السعر والوفر، بَعَثَ رسالةً تَبتَزّ فيها طهران أسواق النفط وتتقدّم من خلالها لدى العواصم الكبرى بصفتها عامل توتر وبيدها قرار الاستقرار.

وإذا ما بات انسيابُ النفط السعودي داخل الأسواق العالمية همًّا دوليًّاً بمناسبة الأزمة في أوكرانيا، فإن إيران تُخاطب العالم في هذا الصدد بالذات في لحظةٍ مُوجِعة من خلال ميليشياتها في اليمن.

تُعَوِّلُ طهران على الظروفِ المُحيطةِ بمفاوضات فيينا حول البرنامج النووي التي تفرض تجنّب الصدام عشية الإعلان عن التوصّلِ إلى اتفاق. تُعَوِّلُ أيضًا على تركيز العالم، لا سيما المنظومة الغربية، على الحرب الأوكرانية بما يُبعِدُ عنها فتح مواجهة، ويُبقيها في خانة الهامش لا المتن في الأولويات الدولية.

وميليشيات الحوثي في اليمن، كما الميليشيات التابعة لطهران في العراق وسوريا ولبنان، ليست إلّا امتدادًا خارجيًّا للحرس الثوري في إيران. ولئن لفت القصف الصاروخي ضد أربيل في 13 آذار (مارس)، والذي أعلن “الحرس” المسؤولية عنه، إلى هامش النفوذ القوي الذي يملكه الحرس الثوري داخل إيران وعلى قرارها، فإن الضربات الحوثية الجديدة ضد السعودية هي رسالة جديدة من هذا “الحرس” تُفصِحُ عن دوره المفصلي داخل نظام الجمهورية الإسلامية والذي يجب على مجموعة الـ 5+1، وخصوصًا الولايات المتحدة، أن تأخذه جدّيًا بالاعتبار كشرطٍ لإنضاجِ اتفاقٍ مُتَوَخَّى في فيينا.

وفيما يدورُ جَدَلٌ صاخبٌ داخل الولايات المتحدة وسجالٌ قَلِقٌ بين دول المنطقة وواشنطن حول خطيئة رفع الحرس الثوري عن لائحة الإرهاب، فإن “الحرس” يضغط، ضد العراق أوّلًا، ثم ضد السعودية وأسواق الطاقة في العالم ثانيًا، وربما ضدّ أهدافٍ أُخرى لاحقًا، من أجل تمرير المطلب الإيراني بتبرئة “الحرس” من تهمة الإرهاب، وهو مطلبٌ لا علاقة له بالمفاوضات المُتَعلّقة بالبرنامج النووي وحده.

والمفارقة أن إيران التي نجحت، على ما يبدو، في إبعاد برنامجها للصواريخ الباليستية وأنشطتها المُزَعزِعة للاستقرار عن طاولة فيينا تحت مُبرِّر أنها ملفات خارجة عن الملف النووي، تقحم مسألة “الحرس” وهي مسألة خارجة عن هذا الملف أيضًا وأضافتها إدارة دونالد ترامب من خارج النزاع حول اتفاق فيينا لعام 2015.

وللعلم فإن الحرس الثوري ليس ذراعًا عسكرية أمنية ضاربة فقط، بل هو أيضًا منظومة سياسية تحتضن المعسكر المحافظ في البلد وتحيط بالمرشد علي خامنئي وتنال بركته. والأهم أن “الحرس” يُسَيطرُ على الحيّز الأكبر داخل الاقتصاد الإيراني، ويمتلك الشركات الأساسية التي يفُترَض أن تَستفيدَ من رفع العقوبات.

وعلى هذا فإن شرط إيران لـ”تحرير” الحرس الثوري من عقوبات لوائح الإرهاب هو أمرٌ مُرتَبِطٌ بعَصَبِ النظام ومادة بقائه، ذلك أن التمويلات التي ستضخّها الاستثمارات الأجنبية داخل شركات “الحرس” (بعد تنظيف سجله العدلي كشرطٍ من شروط إبرام الاتفاق) ستَدعَم نفوذه داخل إيران، وستُعيدُ إنعاش ورش “تصدير الثورة”، التي يتولّاها “الحرس، بصفتها الأساس الذي يقوم عليه النظام وترياق ديمومته وفق قواعد أرساها الخميني قبل أربعة عقود.

والحال أن الحرس الثوري يُجاهِرُ ولا يخفي سلوكًا من المُفترَض أنه يُثبّته على لوائح الإرهاب لا أن يغادرها. غير أن طهران تقرأ الردّ الدولي منذ عقود، وتستنتج تعايشًا مُريبًا يشبه التواطؤ مع سلوكها العسكري الأمني الذي مارسته منذ العام 1979 بدون أن يلقى ردًّا يرقى إلى مستوياتٍ رادعة.

تتوقّع طهران باستخفاف ومن دون أيِّ مفاجآت بيانات الإدانة التي تُطلقها العواصم ضد ما يُسبّبه الحرس الثوري من زعزعةٍ لاستقرارِ المنطقة. بالمقابل لا تَلحَظُ أيَّ ردّ فعلٍ صارمٍ حاسمٍ على النحو الذي تحرّك الغرب باتجاهه بمناسبة الحدث الأوكراني.

ولئن تتفاجأ موسكو هذه الأيام من ردِّ فعلٍ غربيٍّ غير مَحسوب لم يُصادفها حين قامت بحملاتها في الشيشان وجورجيا والقرم، فإن طهران لم تصعقها أيّ مُفاجأة، واستنتجت توقًا سريالية لإبرام الاتفاق معها. وعليه فإن الحرس الثوري يعمل وينشط داخل سياقٍ دولي بات مسؤولًا عن رواج إرهاب لا يقبل بإزالة “الحرس” عن لوائحه.

التحرّك الجديد للحرس الثوري لم يأتِ من فراغ، بل جاء استنتاجًا للمداولات التي جرت على طاولة فيينا. بكلمةٍ أُخرى، فإن الاتفاق الجديد الذي لم يُناقِش وقفَ سلوكِ إيران المُزَعزِع للاستقرار في الشرق الأوسط، يَعِدُ دول المنطقة بمزيدٍ من الأخطار كتلك التي استهدفت شمال العراق بشكلٍ مُباشر وتلك التي تستهدف السعودية بالواسطة بشكلٍ غير مباشر.

والأرجح أن المنظومة الدولية المُنقَسِمة، والتي يشتدّ انقسامها هذه الأيام، ستبقى عاجزة عن توفير الردّ والردع. والواضح أن المرحلة تتطلّب تَمَوضعًا جديدًا لدول المنطقة نراقب أعراضه في حالة التشاور المُكثّفة واللافتة التي تشهدها دول المنطقة هذه الأيام. تعمل المنطقة مُجتَمِعَةً للاهتداء إلى خطّةِ طَريقٍ مُشتركة لمواجَهةِ تحوّلاتٍ يفرضها حدث أوكرانيا الكبير واستحقاقات يُمليها الحدث المُقبل من فيينا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى