مَخاطِرُ بارانويا بوتين: لماذا تُشَجِّعُ العُزلَة على التصعيد؟

الولايات المتحدة وحلفاؤها على حق في فرض تكاليف باهظة على موسكو بسبب غزوها غير المُبرَّر لأوكرانيا، لكن يجب عليهما الاعتراف بإمكانية الانتقام الذي قد يأتي قريبًا من روسيا.

الحرب السيبرانية إذا وقعت بين روسيا وأميركا، فقد تقود إلى حربٍ عالمية ثالثة

ديميتري ألبيروفيتش*

بعد ثلاثة أسابيع على اندلاع حرب روسيا الوحشية في أوكرانيا، من الواضح أن الأمور لا تسير كما هو مخطط لها في الكرملين. باستثناء “كيرسون” و”ميليتوبول”، لم يُسَيطر الجيش الروسي على أيٍّ من المدن الأوكرانية الكبرى. تباطأ تقدّم روسيا في كييف بسبب الإخفاقات اللوجستية ومشاكل إعادة الإمداد، ويبدو أن أعدادًا كبيرة من الضحايا تؤثّر سلبًا في معنويات القوات الروسية. من جانبها، فشلت القوات الجوية الروسية في بسط سيادة جوية على أوكرانيا، وهي خطوة خاطئة مُرَوِّعة تركت القوات البرية الروسية عرضة لهجمات أوكرانية جوية وعقّدت قدرة روسيا على إجراء استطلاع جوي وقصف القوات الأوكرانية. من الواضح أن موسكو تخسر حرب المعلومات العالمية، حيث تُثيرُ صور مقاتلي المقاومة الأوكرانيين الأبطال واللاجئين الأوكرانيين اليائسين التعاطف المؤيد لأوكرانيا في جميع أنحاء العالم.

قلّة هي التي توقّعت أن يتكشّف الغزو بهذه الطريقة – وخصوصًا من مهندسي السياسة والحرب في موسكو. في الأسبوع الفائت، استطاع الجيش الأوكراني الحصول على ما يبدو أنها وثائق تخطيط من فرقةٍ تكتيكية لأسطول البحر الأسود الروسي تُشيرُ إلى أن موسكو تهدف إلى تحقيق أهدافها العسكرية في غضون 12 يومًا – أو بحلول 6 آذار (مارس). إذا كانت هذه الخطط صحيحة، والأدلة المتاحة تُشير إلى أنها كذلك، فمن الإنصاف القول إن الغزو الروسي الأوّلي قد تعثّر.

في الواقع يمكن إعادة إخفاقات موسكو إلى عوامل عدة. ربما بالغ القادة الروس في تقدير قدرة جيشهم، الذي أعاقه الفساد المُستشري وسوء الإدارة، وقلّلوا من تقدير مهارة وتفاني الجيش الأوكراني وكذلك استعداد المدنيين الأوكرانيين للقتال من أجل الدفاع عن بلادهم. من المُحتَمَل أنهم افترضوا أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كانت شعبيته تتضاءل قبل الغزو، سيُكافِح من أجل حشد الدعم في زمن الحرب وأن العديد من الأوكرانيين سيُرحّبون بالقوات الروسية كمُحرّرين. لقد ثبت خطأ كل هذه الافتراضات، ما أدّى إلى تفاقم الأخطاء التكتيكية للجيش الروسي وتنشيط المقاومة الأوكرانية.

لكن السبب الرئيس لسوء سير الحرب الروسية في أوكرانيا يكمن، وفقًا لمصادر مطلعة تحدّثتُ معها مُقرَّبة من وزارة الدفاع الروسية، في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أخفى خططه العسكرية حتى عن أقرب مستشاريه حتى آخر لحظة مُمكنة. بوتين الذي كان أصلًا زعيمًا مُصابًا بجنون العظمة بشكلٍ غير عادي، كان مهووسًا بإخفاء نواياه لدرجة أنه أبقى العديد من المسؤولين العسكريين وأعضاء مجلس الأمن القومي في الظلام بشأن توقيت ونطاق الغزو. (يرسم تقريرٌ صادرٌ عن صحافي روسي مُرتَبِطٌ جيدًا بالنظام صورةً مُماثلة لسرّية بوتين في الفترة التي سبقت الغزو). يصعب التخطيط للحملات العسكرية غير المُحدّدة بوضوح، والآن تقوم مؤسسة الأمن القومي الروسية باللحاق بالركب.

لسوء الحظ، فإن الصفات نفسها التي دفعت بوتين لإخفاء خطط معركته عن كبار القادة في حكومته تجعله على الأرجح يُصعّد الصراع الذي لا يسير حسب رغبته. الولايات المتحدة وحلفاؤها في منطقةٍ مجهولة حيث يُحاولان إجبار بوتين على التراجع. قد يكون من الضروري فرض مزيدٍ من العقوبات الاقتصادية وحتى الضربات الإلكترونية الانتقامية إذا شنّت روسيا هجمات إلكترونية على البنية التحتية الحيوية للولايات المتحدة، لكن يجب ألا تنسى واشنطن أن رجلًا مُصابًا بجنون العظمة ومعزولًا بشكلٍ متزايد يحكم روسيا – شخصٌ قام أصلًا بسلسلةٍ من الحسابات الخاطئة المُكلفة.

بارانويا بوتين

في الأسابيع التي سبقت الغزو، تحوّلت صُوَرُ لقاءات بوتين المُتباعِدة اجتماعيًا مع القادة والديبلوماسيين الغربيين وكبار مسؤوليه –التي تُظهر الزعيم الروسي جالسًا بمفرده في الطرف البعيد من الطاولات الطويلة بشكلٍ هزلي لتجنّب أي خطر الإصابة بـ”كوفيد-19″– محطّ انبهار وسخرية في وسائل الإعلام الغربية. ومع ذلك، على الرغم من سخافتها الواضحة، كانت الصورُ تمثيلاتٍ مَرئية مُناسِبة لموقف بوتين السياسي داخل الكرملين: خائفًا من إمكانية الخيانة، ومُتشكّكًا في محاوريه، ومعزولًا حتى عن أكثر حلفائه ومستشاريه الموثوق بهم.

كان بوتين على الدوام حذرًا ومُرتابًا ومُسيءَ الظن. صنيعةُ وكالة المخابرات السوفياتية ال”كاي جي بي”- وبشكلٍ أكثر تحديدًا، قسم التجسّس المضاد التآمري في الوكالة – فقد شهد لفترة طويلة أعداءً سرّيين وخونة يطعنون في الظهر خلف كل زاوية. ومع ذلك، فإن محاولات واشنطن في كانون الأول (يناير) وشباط (فبراير) لردع بوتين عن غزو أوكرانيا زادت على الأرجح من جنون العظمة المترسّخ لديه. مع احتشاد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، نفّذت وكالات الاستخبارات الأميركية حملة تأثير ناجحة بشكلٍ لا يُصدَّق، حيث قامت بتسريب تفاصيل الخطط العسكرية الروسية وفضح المعلومات المُضَلِّلة التي خطّط الكرملين لاستخدامها لصنع ذريعة لغزوه. يكاد يكون من المؤكد أن هذا الأمر قد عمّق شكوك بوتين في أن البعض في دائرته المُقرَّبة كان يعمل لتقويضه ومن المحتمل أن يكون أثّر في قراره بحجب المعلومات المُهمّة حول خططه لأوكرانيا عن قادة الجيش ومسؤولي الأمن القومي الذين هم في أمس الحاجة إليها.

تساعدُ السرّية الشديدة لبوتين في تفسير بعض الجوانب الأكثر إثارة للحيرة في الحرب. أوّلًا، إنها تُفسّر سبب عدم استعداد السلطات الروسية لموجة المدّ من العقوبات الاقتصادية التي أعقبت الغزو. في اليوم الذي عبرت فيه القوات الروسية الأولى الحدود إلى أوكرانيا، كان البنك المركزي الروسي لا يزال يمتلك أكثر من نصف أصوله في حساباتٍ خارجية حيث يُمكن تجميدها بسهولة –وهو إشرافٌ إستراتيجي كبير حيّر المراقبين الأجانب وترك الاقتصاد الروسي أكثر عرضةً لخطر العقوبات الغربية. لو علمت السلطات الاقتصادية الروسية أن الكرملين على وشك شنّ غزو واسع النطاق، لكانت فعلت بالتأكيد المزيد لحماية الأصول الروسية من الانتقام الاقتصادي.

يشرح نهج بوتين السرّي لتخطيط الحرب سبب أن العمليات الإلكترونية الروسية كانت أقل شمولًا وتعقيدًا مما توقّعه العديد من الخبراء. باستثناء الهجوم الذي عطّل الوصول إلى الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية في أوكرانيا في اليوم الأول من الحرب، يبدو أنه لم تكن هناك هجمات إلكترونية كبيرة – لم تكن هناك هجمات مُدمّرة على شبكة الكهرباء في أوكرانيا أو البنية التحتية العسكرية أو هجمات البرامج الضارة الرئيسة. مُجتمعةً، تُشير هذه الحقائق إلى أن غالبية فرق الإنترنت الروسية المتطورة والمُمَوَّلة تمويلًا جيدًا لم تكن منخرطة ومُطّلعة على تفاصيل الغزو أو أن بوتين كان على يقين من أنه سينتصر بسرعة من خلال الوسائل العسكرية التقليدية لدرجة أنه لم يُكلِّف نفسه عناء إدراج عمليات إلكترونية مكثفة كجُزءٍ من حملته. من الممكن أيضًا أن يكون الكرملين سعى إلى الحفاظ على الغالبية العظمى من البنية التحتية الإلكترونية لأوكرانيا تحسّبًا للسيطرة على البلاد، أو أنه مع الغزو الجاري، توقّع أن يكون قادرًا على تحقيق أهدافه باستخدام الوسائل العسكرية التقليدية. بعد كل شيء، من الأسهل تدمير شبكة الكمبيوتر من طريق تفجير المبنى الذي يضم الخوادم بدلًا من تنفيذ هجوم إلكتروني متطوّر.

ليس هناك شيء ليخسره

إن عزلةَ وبارانويا بوتين لا تفسّران فقط سبب ضعف أداء روسيا في ساحة المعركة؛ فهما تقترحان أن الزعيم الروسي يمكن أن يختار تصعيد الصراع بدلًا من إنهائه من خلال تسوية تفاوضية – حتى مع تزايد الزخم للتسوية. رأى الزعيم الروسي البالغ من العمر 70 عامًا الحرب كفرصة لإعادة الهيمنة الروسية على المسرح العالمي. والآن بعد أن فعلت العكس، فمن المرجح أنه يائسٌ أكثر من أي وقت مضى لتحقيقِ نصرٍ حاسم. في الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها مُعاقبة روسيا وردعها، يجب أن يكونا حريصَين على تجنّب تأجيج نمط التصعيد المُتبادَل الذي قد يؤدي في أسوإ السيناريوهات إلى حربٍ ساخنة بين أكبر قوتين نوويتين في العالم.

ردًا على العدوان الروسي، نفّذت الولايات المتحدة وحلفاؤها واحدة من أقسى حُزَمِ العقوبات المفروضة على الإطلاق ضد دولة أوروبية. على الرغم من أن هذه العقوبات تُبرّرها الطبيعة الفظيعة لتصرّفات موسكو، إلّا أنها لا تخلو من المخاطر. يتمثّل أحد المخاطر الرئيسة في أن روسيا، التي تُواجه مأزقًا عسكريًا، قد تنتقم من الغرب بإجراءاتٍ اقتصادية خاصة بها. على سبيل المثال، يمكن لروسيا أن تُقيّد بشدة الصادرات الرئيسة إلى الدول الغربية –بما فيها الحبوب والتيتانيوم والبلاديوم والألمنيوم والنيكل والأخشاب والنفط والغاز– كما فعلت أصلًا مع الأسمدة. نظرًا إلى أن روسيا مُورّدٌ حيوي للعديد من هذه الموارد –فهي أكبر مُصدّر عالمي للأسمدة الزراعية– يمكن أن ترسل مثل هذه القيود موجات صادمة في جميع أنحاء الاقتصاد العالمي، ما يؤدي إلى زعزعة استقرار الاقتصادات الغربية وزيادة الدعم الشعبي لنهجٍ أكثر عدوانية لإنهاء الصراع.

هناك أيضًا خطرٌ يكمن في أنه إذا شعرت روسيا بأنها مُحاصَرة في الزاوية، فقد تُنفِّذُ هجماتٍ إلكترونية ضد أهدافٍ في الولايات المتحدة وأوروبا. لمجرّد أن موسكو لم تستخدم سوى القليل من قدراتها الإلكترونية حتى الآن لا يعني أنها ستستمر في القيام بذلك. في مواجهة العزلة الديبلوماسية شبه الكاملة واحتمال الانهيار الاقتصادي، يمكن لروسيا أن تحاول استخدام ترسانتها الإلكترونية لإجبار الدول الغربية على تخفيف عقوباتها. يمكن أن تتخذ هذه الهجمات الإلكترونية أشكالًا عدة. على سبيل المثال، يمكن لموسكو شنّ هجمات تخريبية ضد البنوك والمؤسسات المالية الأميركية، ما يؤدي إلى مقاطعة المعاملات المالية وإثارة حالة عدم اليقين بين المستثمرين الأميركيين. أو يمكن أن تهاجم مزوّدي البنية التحتية الأوروبية الحيوية، مثل شركات المرافق الكهربائية، ما يتسبّب في حدوث اضطرابات في الكهرباء أو الطاقة في محاولة لتقسيم الحلفاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو).

إذا وصل الصراع إلى هذه النقطة، فستدخل الدول الغربية في مياهٍ مجهولة. قال الرئيس الأميركي جو بايدن إن إدارته لن تشنّ عمليات إلكترونية ضد روسيا ما لم تستهدف موسكو الشركات الأميركية أو البنية التحتية الحيوية. لكن في أواخر شباط (فبراير)، أشار الأمين العام لحلف “الناتو”، ينس ستولتنبرغ، إلى أن هجومًا إلكترونيًا كبيرًا ضد إحدى دول “الناتو” يمكن أن يؤدي إلى استخدام المادة 5 من المعاهدة التأسيسية للحلف، والتي تُلزم جميع الأعضاء باعتبار أي هجوم ضد أحدهم هجومًا ضدهم جميعًا. على الرغم من وجود بعض التساؤلات حول ما هو الشيء الذي يثير التذرّع بالمادة 5 في عالم الإنترنت –فقد يتطلّب الأمر ببساطة من دول “الناتو” نشر فرق دفاعية للأمن السيبراني لاستعادة الشبكات المصابة وتنظيفها– إلّا أن هناك خطرًا من أن يؤدّي الانتقام السيبراني إلى التصعيد في المجال المادي.

حتى بدون التذرّع الرسمي بالمادة 5 من حلف الناتو، قد لا يكون لدى الولايات المتحدة وحلفائها خيار سوى الرد على الهجمات الإلكترونية الروسية بهجمات إلكترونية من قبلهما، بخاصة إذا كانا استنفدا بالفعل القائمة الكاملة للعقوبات الاقتصادية القابلة للتطبيق. من المستحيل أن نعرف على وجه اليقين كيف يمكن أن يتكشّفَ مثل هذا النمط من الضربات الإلكترونية الانتقامية، نظرًا إلى الطبيعة غير المسبوقة إلى حدٍّ كبير لهذا النوع من التصعيد، ولكن يمكن أن يمتد إلى الساحة العسكرية التقليدية – ما يزيد بشكل كبير من خطر حدوث صراعٍ رئيس مُسلّح.

تؤكد هذه المخاطر على الحاجة إلى توخّي الحذر الشديد عند التفكير في كيفية الرد على الهجمات الإلكترونية الروسية. قبل القفز إلى دوامة التصعيد الإلكتروني التي يُحتَمَل أن تكون خطرة، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها أولًا استخدام جميع الأدوات الاقتصادية المُتاحة لهما. على سبيل المثال، يجب على واشنطن فرض عقوبات إضافية على أفرادٍ من المؤسسة العسكرية والأمنية الروسية، ما قد يؤدي إلى حدوث انشقاقات داخلية داخل النظام الروسي وإضعاف قبضة بوتين على السلطة. يجب على أميركا أيضًا أن تستمر في فرض عقوبات ثانوية على الكيانات التي تتعامل مع أشخاصٍ أو كيانات تخضع لعقوبات أميركية – على سبيل المثال، البنوك الأجنبية التي تتعامل مع الأوليغارشية الروسية.

الولايات المتحدة وحلفاؤها على حق في فرض تكاليف باهظة على موسكو بسبب غزوها غير المُبرَّر لأوكرانيا، لكن يجب عليهما الاعتراف بإمكانية الانتقام الذي قد يأتي قريبًا من روسيا. ستحتاج الحكومات في نهاية المطاف إلى إدراك حقيقة أن التهديدات السيبرانية هي امتداد للتحديات الجيوسياسية الأوسع –وبالتالي تتطلّب حلولًا ديبلوماسية– ولكن سيكون من المؤسف والخطير للغاية أن يحدث هذا الحساب في ظل التهديد الوشيك بالحرب بين القوى النووية العظمى. لتجنّب مثل هذه النتيجة الخطيرة، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها بذل كل ما في وسعهما لتجنّب تأجيج دورة التصعيد الإلكتروني التي يمكن أن تفلت من عالم الإنترنت.

  • ديميتري ألبيروفيتش هو المؤسس المشارك ورئيس “Silverado Policy Accelerator” والمؤسس المشارك والرئيس التنفيذي السابق للتكنولوجيا في شركة الأمن السيبراني “CrowdStrike“. يمكن متابعته عبر تويتر على: @DAlperovitch
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالانكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى