أطفالٌ تحتَ خَشَبَةِ المَسرَح

عبد الرازق أحمد الشاعر*

كل الطرق في أوكرانيا تؤدّي إلى الموت، وكلُّ الملاجئ مُعرَّضَةٌ للسقوط فوق رؤوس أطفالها، واللافتات لا تعني أيّ شيء لأبابيل الموت التي تستبيح الأجواء من دونِ وازعٍ من أُممٍ مُتَّحدة أو خوف من مجلس أمن. في أوكرانيا، يُمكنك أن تكون بطلًا في مأساةٍ على خشبة أحد المسارح المهجورة حتى وإن لم تكن تُجيدُ التمثيل في زمن أفسدت فيه السياسة كل فن.

يوم الأربعاء الماضي، وتحديدًا في السادس عشر من آذار (مارس) بتوقيت مدينة “ماريوبول”، تصاعدت سُحُبُ الدُخان والغُبار الكثيف من بقايا أحد المسارح المهجورة في وسط المدينة إثر سقوط قنبلة من إحدى الطائرات الروسية عليه. وخلف الكواليس، تحرّكت الأيدي المُرتَعِشة للإطمئنان على صغارها وإزاحة الصخور والأتربة من فوق الوجوه الدامية. وأمام المسرح، تحلّق جمعٌ من رجالِ الدفاع المدني لمُشاهدة العَرض الأوّل للقصف الدموي لأحد الملاجئ، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فم الموت.

يبدو أن الطيار الذي أنزل حممه الحارة فوق الأجساد الباردة لم يكن يُجيد القراءة، وإلا لما قصف عمدًا ملجأً كُتِبَ على جانبيه بالروسية الفصحى “هنا أطفال”. وربما لم تأته الأوامر من قيادته العسكرية في موسكو بقراءة اللافتات أو تصديقها. ولعلّه أراد أن يُحقِّقَ نصرًا على أيِّ رُكامٍ حتى وإن كان من عظامٍ طريّة غضّة. لكن التاريخ علّمنا أن ألسنةَ النيران وسُحبَ الدخان ليست سوى بداية درامية لمشهدٍ عبثي أراد مُخرِجه أن يلفتَ أنظار الواقفين على جانبي الخرائط. فخلف مشهد القصف هذا عيونٌ دامعة، ونشيجٌ لا ينقطع، ودماءٌ لن تجفّ، وثأرات لن تَهدأ.

حين تنتهي الحرب، هذا إن انتهت، سيعود الطيّارُ المغوار إلى وطنه بالكثير من الدمى والحلوى، ليجلس مع أطفاله على شرفة منزله ويُحدّثهم عن بطولاته في ماريوبول، وكيف أنه استطاع أن يَختَرِقَ أنظمة الدفاع الأوكرانية، وأن يُراوِغَ طائرات العدو الحربية، وأن يلقي بحممه فوق الحصون والفيالق والمُدرّعات، لكنه لن يستطيعَ أن يُخبرهم أنه حقّق انتصارًا على أطفالٍ لا يملكون إلّا صرخاتهم، ونساءٍ كنَّ يبحثنَ في الظلام عن أعوادِ ثقابٍ لإعداد وجبات حليب دافئة لأطفالهن.

الحربُ قذرة وغير أخلاقية أيها السادة، فلا تتسرّعوا بالاصطفاف إلى جوارِ قاتلٍ نكاية في أهل قتيل، خصوصًا عندما يكون القتيل طفلًا لا يَدري فيمَ قُتل، وإلّا أصبحتم شركاءً في الجُرم وإن لم تغمسوا أياديكم في محابر الدماء. فلطالما جرّبنا في بلادنا طَعمَ الموت، ولطالما أزكمت رائحة البارود أنوفنا، ولطالما لملمنا أشلاءنا من تحت أنقاض المسارح والمصانع والمدارس ودور العبادة التي دمّرتها طائرات مَن لم يرقبوا فينا ولا في أطفالنا إلّا ولا ذمة.

لا ثأر بيننا وبين نساء أوكرانيا أو أطفالها أيها السادة، وليس هناك سجلُّ من العداء بيننا وبين شيوخ أوكرانيا وعجائزها. نعلم أعداءنا جيدًا، وندعو الله أن تُحرّرنا هذه الحرب من تبعية القطب الأوحد الذي سامنا الهوان، واستباح أرضنا وسماءنا وقسّم أوطاننا وسلب أرزاقنا، وأعان عدوّنا وقهر رجالنا وشرّد نساءنا ويتّم أطفالنا. لكن لا يجب أن ننسى أن الطائرات التي كانت تدكّ مدننا لم تكن كلها مُرصّعة بنجوم العم سام أو نجمة داوود، ولعلّ طيار ماريوبول والذي دكّ المسرح فوق رؤوس لاجئيه قد شارك ذات بطولة بطائرته تلك في طلعات مشابهة فوق دمشق أو إحدى ضواحيها.

في أوكرانيا، كما في سوريا وفلسطين والعراق، تتشابه دماء المدنيين ونحيب الثكالى وصيحات الأطفال. قد لا نستطيع تمييز لغة المنكوبين، لكننا لن نحتاج إلى مَن يُترجم نشيجهم المُتقطّع وصرخاتهم المكبوتة. وسيظل مسرح ماريوبول يعرض فصلًا داميًا من فصول همجية الإنسان ووحشيته فوق خشبته المُدَمَّرة حتى قيام الساعة، حتى وإن لم يذهب لمشاهدة العرض أحد.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@mail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى