هل هناك أمل باستقلالِ الأمن الأوروبي؟

إذا كان الخلاف سيطر على الساحة الأوروبية منذ 2011، فإن موضوع التزام دول أوروبا الشرقية بتوجّهات الاتحاد الأوروبي احتل مساحة مُهمّة في حلقات النقاش، حيث ظهر بشكلٍ جلي أن هذه الدول ترفض التخلّي عن المظلّة الأمنية الأميركية.

الرئيس إيمانويل ماكرون: دعا إلى استقلال أوروبي أمني ولكن من دون نجاح

شهاب المَكاحله*

مع الثورة الإعلامية التي صاحبت الطفرة التقنية التي يشهدها العالم، ظلّت درجاتُ التأثيرِ المُتفاوِتة مُرتَبِطة بالعديد من العوامل، بما فيها القدرات وأساليب العمل، ويبقى المقياس الأهم هو مدى المصداقية التي تتمتّع بها وسائل الإعلام في نظر الجمهور ومدى تعبيرها الفعلي عن تطلّعات وتوجّهات شعوب المنطقة.

لا يُمكن مُقارَنَةُ الظروف الحالية في أوروبا بتلك التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي شكّلت في تلك الحقبة أرضية مناسبة لإدامة خضوع الدول الأوروبية للولايات المتحدة الأميركية من خلال خطة مارشال ومنظمة معاهدة شمال الأطلسي (الناتو). عَوَّضت القوة الأميركية في تلك المرحلة الضعف الأوروبي بسبب نتيجة الحرب المُدمّرة في القارة الأوروبية.

لذلك، قُوبِلَ الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال في جامعة هارفارد في العام 1947، والذي قدّم خلاله المساعدة لتعزيز الانتعاش الأوروبي وإعادة الإعمار، بإيجابية أوروبية كبيرة، وذلك نتيجة الركود والبطالة والخسائر في البنى التحتية الصناعية والخِدميّة.

لكن رئيس الاتحاد السوفياتي في تلك الحقبة، جوزيف ستالين، رفض العروض الأميركية، لأنه كان مُتأكِّدًا من أن ذلك سيؤثّر في قرار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية واستقلالها. عندها، لم تتردّد الولايات المتحدة في استكمال مشروعها للهَيمَنة العالمية من خلال دعم علاقاتها الأمنية مع دول أوروبا الغربية من خلال “الناتو”، بعدما أقنعتها بضعفها وعدم قدرتها على ضمان استقلالية قرارها، وتحذيرها من التهديدات الآتية من الشرق: الاتحاد السوفياتي.

وهكذا، خلال الحرب الباردة، ترسّخ ميزان القوى بين المحورين الأميركي والسوفياتي، وتأسست التبعية الأوروبية للولايات المتحدة، التي استطاعت أن تفرض رؤيتها وقرارها على القارة الأوروبية خلال فترة الحرب الباردة.

مع ذلك، سعت فرنسا إلى التحرّر من القبضة الأمنية الأميركية في وقت مبكر، عندما انسحب شارل ديغول من مجلس قيادة “الناتو” في العام 1966 للتعبير عن احتجاجه على الدور الأميركي المُهَيمن واستيائه من العلاقة البريطانية-الأميركية. وقد تأخّرت المحاولات الأوروبية لبناء إطارٍ أمني مستقل إلى ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. ويُمكن تصنيف الشراكة الأورومتوسطية (أو عملية برشلونة) في العام 1995 بمشاركة 15 من جيران أوروبا الجنوبيين وسياسة الجوار على أنها أولى المحاولات الجادة التي أسّست فكرة الاستقلال الأمني ​​الأوروبي على الرغم من اختلاف الآراء حول نجاحها أو فشلها.

إذا أردنا الخوض في جدّية المحاولات الأوروبية للاستقلال الأمني​​، فيُمكن إظهار عدد من القضايا من خلال الاتجاه الأوروبي لتقويتها. لم يحظَ القرار الأميركي باحتلال العراق وإسقاط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بدعمٍ أوروبي (عدا بريطانيا) حيث نجح الفرنسيون والألمان في دفع الاتحاد الأوروبي إلى رفضِ أيّ تدخّلٍ عسكري خارج إطار القانون الدولي.

لكن إذا أردنا القفز فوق تاريخ هذه المحاولات، فمن الضروري الإشارة إلى الاختلاف في الاستراتيجيات والرؤى بين جانبَي المحيط الأطلسي. في هذا السياق، تبرز الرؤية الفرنسية-الألمانية المشتركة، من حيث الإصرار على إعادة تحقيق حلم شارل ديغول ببناء جيشٍ أوروبي على أساس القدرات الدفاعية الأوروبية المستقلة عن أيِّ آليةٍ أميركية.

في تحليلِ هذا الاتجاه، لا يرتبط الهدفُ الأوروبي فقط بطموح الانفصال والاستقلال عن الولايات المتحدة، كإجراءٍ يُرضي رغبة الاتحاد الأوروبي في الشعور بقدرته على إدارة شؤونه وتحديد مصيره بنفسه، ولكن يرتبطُ برؤيةٍ مُختلفة لمستقبل الاتحاد الأوروبي وكيفية التعامل مع الأزمات التي يواجهها.

بعد احتلال العراق، أدركَ الاتحاد الأوروبي أن الظروف الدولية كانت مُختلفة عمّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. وعليه، شكّل الدور العسكري والأمني ​​لحلف شمال الأطلسي انحرافًا عن المسار ولعبت المعلومات الإعلامية الخاطئة وعمليات التضليل دورًا رئيسًا في تحول الأسود إلى الأبيض: تحوّل احتلال العراق وتدمير بنيته التحتية إلى انتصارٍ وحربٍ ضدّ الاستبداد وأسلحة الدمار الشامل. بعد التحقيقات، لم تكن لدى العراق أسلحة دمار شامل، وكانت الذرائع وراء الحرب على العراق مُرتبطة بالأعمال التجارية.

إذا كانت المصلحة الأميركية محكومة بإطار الحفاظ على القطبية الأحادية الأميركية، من خلال منع أي محاولة لتغيير التوازن القائم، وبدون وضعِ أيِّ اعتبارٍ لمُتطلبات وشروط الأمن للحلفاء، فإن التحدّيات الأمنية التي ألقت بثقلها على واقع الأوروبيين دفعت أقطاب الاتحاد الأوروبي إلى الاقتراب من ملفّ استقلال قرار الأمن والدفاع ومناقشته تضامنًا.

وعلى الرغم من الجهود المبذولة في هذا الصدد، لم يتمكّن الاتحاد الأوروبي من تحقيق أيّ نتائج عملية لأن عددًا من الأسباب شكّلت عاملًا من عوامل الانقسام وعدم التوافق. لقد شهدت السنوات الأخيرة، وبخاصة خلال رئاسة دونالد ترامب، دعواتٍ فرنسية مُكثَّفة للنأي عن توجّهات الرئيس الأميركي السابق، وانقسامًا أوروبيًّا حول قضايا أمن الطاقة وموقف دول أوروبا الشرقية من الدعوات للاستقلال عن “الناتو” حال دون هذا الاتجاه.

لم يكن الخيار الألماني متوافقًا مع موقف دول أوروبا الشرقية والوسطى على خط الأنابيب “نورد ستريم”. تحت ستار التخوّف من الاعتماد على الغاز الروسي، ضغطت دول أوروبية، تحت غطاءٍ أميركي، على ألمانيا، مُتَّهِمةً إياها بتعريض أمن الطاقة الأوروبي للخطر، في ظل إصرارها على عدم الحاجة إليها لتأمين احتياجاتها.

إذا كان هذا الخلاف سيطر على الساحة الأوروبية منذ 2011، فإن موضوع التزام دول أوروبا الشرقية بتوجّهات الاتحاد الأوروبي احتل مساحة مُهمّة في حلقات النقاش، حيث ظهر بشكلٍ جلي أن هذه الدول ترفض التخلّي عن المظلّة الأمنية الأميركية.

إذا نجحَ الاتحاد الأوروبي في خلقِ فضاءٍ للاستقلال من خلال تبنّي سياسة تقوم على الحوار والإقناع بجدوى هذا الخيار، فإن الولايات المتحدة الأميركية، من خلال أذرعها الطويلة في “الناتو”، نجحت في جذبِ دول شرق الاتحاد الأوروبي إلى تبنّي خياراتها. إن توجّهَ حلف “الناتو” شرقًا وتركيزه على الحدود الروسية للحد من آثار التراجع الأميركي، وعدم الاكتراث لطلب الإدارة الروسية بضماناتٍ أمنية على حدودها، أدّى إلى زيادة مستوى التوتر في المنطقة التي تفصل روسيا من جهة والاتحاد الأوروبي و”الناتو” من جهة أخرى. ونتيجة للإصرار الأميركي على عدم رفض خطة ضم أوكرانيا إلى “الناتو”، وجدت الدول الأوروبية نفسها في مواجهة حرب روسية على حدودها.

على الرغم من تخلّي روسيا الحديثة عن عقيدة الاتحاد السوفياتي، وسعيها المستمر إلى توطيد علاقاتها مع الدول الأوروبية، تحت شعار التكامل الاقتصادي والأمن الجماعي، إلّا أن دول الاتحاد الأوروبي لم تنجح في التخلّص من العقدة التي تفترض أن الخطر آتٍ من الشرق. تفاقمت الأزمة بين أوكرانيا وروسيا عندما تحوّلت إلى حرب، ما دفع الدول الأوروبية إلى التخلّي بالقوة عن سعيها إلى الاستقلال الأمني​​، وعملت معًا مع الأميركيين لاستعادة الخطة التي مضى عليها 30 عامًا؛ في ذلك الوقت، كانت العلاقات الدولية في أوروبا تحكمها ضرورتان: السيادة الأوروبية غير المُكتملة تحت السيطرة الأميركية، والمرجع الأمني ​​الأوروبي الذي يلغي كل شيء آخر.

لعب الإعلام دورًا سلبيًا من خلال التعبئة لهذه الحرب، في وقت يمكن استخدام وسائل الإعلام لنشر السلام والاستقرار في جميع أنحاء العالم. مع ذلك، يجب أن نفهم مَن يُموّل المنافذ الإعلامية الكبرى في العالم لفَهم طبيعة التغطية.

  • شهاب المكاحله، هو مستشار إعلامي وسياسي بارز في الأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة، وقد عمل كخبير سياسي وعسكري وأمنى في العديد من دول الشرق الأوسط. يمكن متابعته عبر تويتر على: @ShehabMakahleh

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى