مارتن غيسِن: من سماء بيروت إِلى ميناء دُبَـيّ

مارتِن غيسِن

هنري زغيب*

قبل قرنين، كانت محفوظاتُنا التشكيلية عامرةً برسوم المستشرقين الْكانوا يجوبون البلدان العربية ويتركون بريشاتهم مناظرَ مشاهدَ ووُجوهًا وأَماكن زالت اليوم أَو تغيَّرت معالِمُها، ولم تعُد موجودة – في غياب الفوتوغرافيا – إِلَّا في لوحاتٍ نوستالجية لأُولئك المستشرقين.

على أَن الفوتوغرافيا، وسلالاتها التكنولوجية والإِلكترونية، لم تُلْغِ الأَعمال التشكيلية المعاصرة التي تلتقط، بإِبداع ريشات خلَّاقة، مناظرَ ومشاهدَ ووُجوهًا وأَماكنَ هي اليوم نابضةٌ، وسوف تبقى لاحقًا شاهدةً على اللحظة التي ارتعشَت بها ريشةُ فنان بارع.

وإِذا فضْل الرسامين المحليين، في كل بلد عربي، كبيرٌ في التقاط تلك الهنيهات، فالفضل أَكبر حين تولد على ريشة فنان أَجنبي تكون له عين ثالثة في رؤْية ما أَمامه، فيعطيها طابعًا إِنسانيًّا أَوسعَ مما يعطيه ابنُ البلد بطابعه العاطفي أَو النوستالجي.

من هؤُلاء الأَجانب الذين يرسمون فلذاتٍ جميلةَ من بلادنا: الرسام الأَلماني مارتن غيسِن، المبدعُ مائياتٍ تكاد تنضح برائحة البحر وزقزقات النوارس.

كورنيش بيروت واحةُ جمال

مطالع ريشة مبدعة

وُلد في أَلمانيا سنة 1945. درس تاريخ الفن في جامعة هايدلبرغ. عمل في متحف متروبوليتان (نيويورك)، عاد بالدكتوراه (في تاريخ المتاحف) إِلى بيروت يدرِّس في الجامعة الأَميركية (1973-1985) وجامعات أُخرى في المملكة العربية السعودية وكندا، وهو حاليًّا في الإِمارات العربية المتحدة عميد كلية الفنون في الجامعة الأَميركية – الشارقة. تميَّز، خلال 30 سنة من تجواله على البلدان العربية، بمائياته التي في معظمها تركز على أَثر التنمية في البيئة البشرية. ولأَجل رسالته هذه أَقام معارض متتالية في لبنان وأَلمانيا وكندا والإِمارات العربية المتحدة.

يروي أَنه، منذ مطالعه في الرسم، تأَثَّر بأُسلوب فان غوخ وسيزان وبراك وبيكاسو، والأَميركيين التجريديين مثل راوشِنْبِرغ وبولوك وماذِروِيل ولِتْشِنْشْتاين. ومنذ عشرين سنة في الشرق العربي، وهو يلتقط من جوّ بيئاته عصبَها الجوهري: إِعادة بناء وسط بيروت، المرافئ المزدحمة في الخليج، تطوُّر دُبَـيّ بين طابعها التراثي وحاضرها العصريّ، الإِرث الهامد في قبرص.

مسجد الشيخ زايد في أَبو ظبي

في لبنان…

في لبنان نسج مائياتٍ كثيرةً عن بيروت الناهضة من دمارها إِلى عمارها، وأَخذَه سهل البقاع إِلى هياكل بعلبك الشمسية وتطريزات الحجر في معبَدَي جوبيتر وباخوس، وتجوَّل بريشته في صُوْر وأَسواقها وبين ناسها، وطويلًا خلال تدريسه 12 سنة في الجامعة، رافقَ مشاة كورنيش المنارة البحري، وجلس يرسم في دير القمر. وبين سائر الرسامين الأَجانب في لبنان، كان أَبرعَ مَن نجح تشكيليًّا في توثيق الشوارع والممرات والأَزقَّة وواجهات البيوت البيروتية ومآسي بعض الأَحياء إِبَّان سنوات الحرب، فكانت خطوطُه وأَلوانُه تعكس قلقَ الناس وذُعرهم في ليالي القصف ونهاراته، ثم تعود فتُشرق أَلوانه في أَيام لبنان البهية الساطعة الشمس والفرح.

إِبان عمله في لبنان كانت له معارض لافتة لدى غالري أَمَل طرابلسي وعايدة شرفان، استقطبَت جمهورًا متتاليًا حتى جاء وقتٌ بات يندر فيه أَلَّا يكون في بيتِ بيروتيٍّ أَو مثقفٍ عملٌ بريشة مارتن غيسِن.

سماء بيروت ومسجد محمد الأَمين

… وفي الإمارات

أَدهشته في الإِمارات ظاهرةُ جمْعها بين عراقة التراث وأَحدَث التجديد، فتوقف طويلًا أمام قصرها السامق في دبي: “برج الاتحاد” بأَناقته وعصريته قبالة مراكب خشبية تقليدية تراثية في مينائها، ما يجعل المنظر موشوريًّا في جمال نادر ذي زُرقة بحرية خاصة.

وأَخذتْه الشارقة، شماليَّ الإِمارات، بغنى مساجدها الجميلة المتعددة الأَنماط المعمارية بين تركي ومملوكي، كما لفتَتْهُ مئْذنة مسجد المغفرة عند مرفإ خالد.

في مقال لرئيس تحرير مجلة “الفن في أَميركا” ديفيد طنُّوس جاء أَن “غيسِن مستشرق معاصر، تتمكَّن ريشته ببراعة نادرة من التغلغُل تحت جلْد المكان وثقافته، لتُطلع زُبدةَ ما فيهما من ملامح ومعالم، وتَخرج بروحٍ تعكس بيئةً نابضة أَكثر مما ترسم لوحةً حياديةً تعبيرية”.

تاكسي بحري في مرفأ دُبَـيّ

بين التراث والمعاصَرة

فعلًا: هذا الأَمر واضح من لمسات ريشته، حتى ليُعرف أُسلوبه ولو لم يوقِّع اللوحة، لأَنه ينقل متَلَقِّيه أَوسع من مساحة إِطارها إِلى نكهة ما فيها من معانٍ وتراث وظروف. من هنا أَن لوحته، في لبنان أَو في الإِمارات، تَنضَح بمناخ عامٍ فيه تاريخٌ وفيه سياحةٌ وفيه تراثٌ، مثلما فيه معاصَرةٌ وحداثةٌ وطليعية. والأَهمُّ أَن قارئ ريشته يتلقَّى التعبير آتيًا صوبَه من داخل اللوحة عوضَ أَن يُرسل بصرَهُ إِلى مسطَّح اللوحة.

وهو يعرف كيف يطوِّع ريشته المائيةَ الصوت على ورقه المائيّ الصدى، فتنبضُ الأَلوان وهي تَحكي بين الخطوط تجاعيدَ وجهٍ، أَو مقذافَ صيَّاد في مركب، أَو صمتًا يضجُّ في شارع مهجور، أَو سماءً حيرى تنتظر عودة سنونواتها. وفي كل ذلك، تَختصر اللوحةُ الساكنةُ الملامح كلَّ ما يضجُّ في بال رسامها، الناقلِ مناخَ المكان بين لبنان بجمالاته وتفاعلاته، والإِمارات بما يتردَّد في حناياها من ازدهار وتقدُّم وطليعية، حتى بات الشرقُ والغربُ يلتفتان إِليها في إِكبارٍ وتَأَمُّل.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى