إيران في فيينا: ضَبطُ الهامِش حِماية للمتن!

محمّد قوّاص*

شهورٌ مُعقّدة استغرقتها المفاوضات النووية مع إيران منذ اعتلاء إبراهيم رئيسي سدة الرئاسة الإيرانية. وقد لا نَستَغرِبُ أن الاتفاق الذي ستفرج عنه كل هذه المفاوضات التي بدأت في نيسان (إبريل) الماضي، في اليسر منها والعسر، لا تستحق كل هذا العناء، وأن ما تسرّب حتى الآن يكشف عن اتفاقٍ مُتواضِعٍ يُعيدُ إنعاش نصوص العام 2015 ويُحرِّرُ شيئًا من أرصدة إيران المالية، من دون أي قيد يمسّ قدرات طهران على التهديد والتهويل وزعزعة الاستقرار.

باختصار، يهمّ إيران أن تبرم اتفاقًا يتعلّق بالهامش، وستُعانِد إلى الحدود القصوى لمنع أي اتفاقٍ يتناول المتن. وقد يدعو إلى الاستغراب التأكيد أن كل البرنامج النووي الإيراني لم يكن هدفه الأساسي امتلاك إيران السلاح النووي (وهي لن تمانع إذا أُتيح لها ذلك)، بل تشييد حصنٍ تُقارع به العالم لحماية النظام السياسي ودينامياته الثورية العقائدية.

والحال أن ما أعلن عنه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في مؤتمر ميونيخ للأمن، يكشف تمامًا ثُنائية المتن والهامش في القواعد التي تقوم عليها جمهورية المُرشد الفقيه في إيران. أكد الوزير الترحيب بالاتفاق الذي “ينبغي أن يكون نقطة انطلاقٍ لا نقطة انتهاء”. غير أن المرجح، وفق رؤى التيار المحافظ الحاكم في طهران، أن التدلّل والتردّد والمُكابَرة التي مارسها الوفد الإيراني في جنيف هدفها أن يكون هذا الاتفاق العتيد نهايةً لا يسمح ببداياتٍ تفتح ملفّات نزاع أخرى.

لا يهمُّ إيران اقتناء قنبلة نووية تردعها قنابل الكوكب الأخرى، فذلك هامش. لم تكن طهران تحتاج إلى كل هذه المعارك من أجل الإفراج عن أرصدتها المالية في الخارج، أو رفع القيود عن تجارتها النفطية وإزالة العقوبات عن استثمارات الخارج في أسواقها. كان بإمكان إيران أن تحظى بكلِّ ذلك، وأن تكون جُزءًا طبيعيًا من المجتمع الدولي، وأن لا تخضع لأيِّ عقوبات تحتاج إلى التفاوض والمُساوَمة من أجل التخلّصِ منها. وما كلُّ العواصف حول البرنامج النووي إلّا هامشٌ هدفه حماية متن النظام.

ما كان سيُقلق إيران هو المسّ بأسباب وجود نظامها وشرعية ديمومته. بمعنى آخر، الاحتكاك مع فلسفة بقاء النظام وأمنه واستقراره المُتَمَثِّلة بالتمدّد العقائدي والميليشيوي في الخارج، وفرض حالة اللا استقرار داخل ميادين النفوذ لديها. والأمر هنا ليس وسيلة تُبرّرها الغاية وفق مذهب ماكيافيلي الشهير، وليس تكتيكًا موقتًا عَرَضيًا، بل استراتيجية نهائية تتجمع داخلها أبجديات نظام ولاية الفقيه وصموده. باختصار، إنه متن النظام وسرّ عيشه.

انسحب دونالد ترامب من الاتفاق النووي بصفته “أسوإِ الاتفاقات” وفق حجج قراره. أُلحق مرسوم الانسحاب بالشروط الـ 12 التي أعلنها وزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو. قليلٌ من تلك الشروط يتعلق بالبرنامج النووي وضرورات التوصّل إلى اتفاقٍ أكثر متانة ومصداقية ونجاعة. لكن الكثير الكثير من هذه الشروط يتعلّق بمسؤولية طهران عن رعاية الإرهاب، وزرع الميليشيات، والانخراط في أنشطة مُزعزعة للاستقرار، بما فيها تطوير برنامج للصواريخ البالستية. سقطت شروط المتن وعادت واشنطن وحلفاؤها الى التفاوض حول الهامش.

قد يُصفِّقُ المُصَفِّقون لـ”إنجاز” فيينا المُتَوَقَّع. في الشكل ستغلق مجموعة الدول الخمس زائداً واحداً (أميركا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، روسيا، الصين) ملف إيران النووي، وتُوكِلُ مراقبته لآليات تتولّاها المنظمة الدولية للطاقة الذرية أو غيرها. سيتمكّن المستثمرون الشرهون من العودة إلى السوق الإيرانية، غير مُكترثين بطبيعة نظام طهران وأدواره المُلتَبِسة في العالم والمحيط. لكن دول المنطقة ستكون من جديد أمام اتفاق، كما في العام 2015، لم يأخذ هواجسها بعين الاعتبار، وقد يكون لسان حال جو بايدن ما قاله باراك أوباما في ثنايا “عقيدته” أن “اذهبوا وتقاسموا نفوذ منطقتكم مع إيران”.

يرى بن فرحان أن “على إيران تعديل أولوياتها”، ويذهب في معرض الحديث عن الحوار السعودي-الإيراني الى التأكيد أن “لا تقدّم”، وأن صفقة فيينا “منقوصة ولا تحمي السعودية”. في المقابل، لا تُعبّر إيران عن أيِّ مناخٍ من شأنه طمأنة جيرانها في المنطقة، لا سيما في الخليج، وخصوصًا السعودية، ولا تظهر أيّ تحوّلات بشأن “مقدس” نشر ميليشياتها من لبنان إلى اليمن، مرورًا بسوريا والعراق، ودعمها ورعايتها. هنا فقط تبدو “الأولويات” غير قابلة للتعديل وفق ما يتمنّى الوزير السعودي، وأن لا نيّة أبدًا لوقف دعم الحلفاء/الأتباع خشية “أثر الدومينو” عليها.

يستبعد “آرش عزيزي” جدًا، وهو الباحث في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك (ومؤلف كتاب “قائد الظل: سليماني والولايات المتحدة وطموحات إيران العالمية”) أن تتخلّى إيران عن أيٍّ من حُلفائها، لأنها “تخشى من أثر الدومينو الذي يُمكِنُ أن ينتهي بتهديد قاعدة النظام في طهران”. يُضيف أنه “فقط قرار استراتيجي كبير يمكن أن يؤدي إلى تخلٍّ عن بعض الحلفاء. وهذا لن يحدث ما دام خامنئي حيًّا. وإذا اتُّخذ خيار كهذا لاحقًا فسيكون بمثابة تحوّلٍ جوهري في النظام الإيراني نفسه”.

على هذا تُحافظ إيران على ميليشياتها وصواريخها البالستية متنًا استراتيجيًا، يسقط من أجله هامش البرنامج النووي وقنبلته المفترضة. ووفق “منجز” فيينا، ستطل إيران على بلدان المنطقة شاهرةً اعترافًا دوليًا بطبيعة نظامها الذي يشترط بقاؤه استمرار ما يزعزع استقرار الآخرين (اتفاق 2005 كان يشرّع لاحقًا برنامج الصواريخ ويرفع حظر التسلح عن إيران).

المسألةُ أصلٌ وليست فرعًا في سياسات طهران الإقليمية، بما يفسّر أن لا يتقدم حوار الرياض وطهران، وأن تستمر الحملات ناريةً من اليمن وإعلامية أمنية من لبنان تُهدد أمن المملكة، وأن تُبقي إيران مفاتيح الحلّ في العراق وسوريا ولبنان في خزائن الوليّ الفقيه.

لا يتسرّب من فيينا ما بإمكانه إحداثِ أيِّ تحوّل في طبيعة نظام طهران البنيوية. على ذلك، فإن الصفقةَ نذيرُ مزيد من العنف والاختلال والفوضى التي ستنهل إيران وقودها من نصوص اتفاق لا تجد في سطوره الرادع والمانع.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى