في ذكرى غياب ميخائيل نعَيمه *: أيامُه الثلاثة الأخيرة

سرير نعيمه: عليه زَفَر نَفَسَه الأَخير

سهى حداد نعَيمه*

1) 25 شباط/فبراير1988: قبل الظهر.

ميخائيل نعيمه مستلْقٍ على سريره في غرفة نومه (الزلقا – قضاء المتن). ونحن ثلاثتُنا حوله: أُمِّي ميّ ابنة أخيه (“ملاكه الحارس” كما كان يلقّبها) وشقيقها نديم وأنا. أحمل آلة التسجيل وأسجّل تلك الأحاديث مدركة أهميّتها: لعلها آخر لحظات ميخائيل نعيمه (جدّو “ميشا” كما ترعرعت على مناداته – أبي الروحيّ الذي نشأْتُ على محبّته وروحه وفكره ومردود كتبه). بهذا التسجيل يتسنّى لي أن أسمع دومًا صوت حبيبي جدّو ميشا ساعة أشاء، قبل رحيله الذي لا بدّ منه، أو لاحقًا بعدذاك. ولا تزال لديَّ هذه التسجيلات، حملتُها معي من منزلنا، أمي وأنا، في الزلقا (منزل ميماسونا: ميخائيل، ميّ، سهى، نعيمه = الأقانيم الثلاثة للكلمة الواحدة والنبض الواحد) إلى المنزل-المتحف اليوم في المطيْلب حيث نقلْتُ كل تفاصيل منزل الزلقا الذي شهد آخر عشرين سنة من عمر نعيمه، وفيه مخطوطات ووثائق وصور ورسائل وأغراضه الشخصيّة خلال تلك الحقبة.

أعود إلى التسجيل الصوتي:

– نديم (يسأل ميّ): أكل عمّي اليوم؟

– ميّ:  أكل شقفتين غريفون وشقفة توست.  شو قلّك د. أمين يوسف؟

– نديم: قال لي إنّ عمّي يعاني من نزلة صدريّة وتناوُلُهُ الدواء بانتظام سيؤدّي إلى الشفاء.

– ميّ: ان شالله. الله يسمع منّك.

2) 26شباط/فبراير: نحو الظهر:

ميخائيل نعيمه في سريره. حوله ميّ ونديم وأنا. أسجّل ما يصدر عن “جدّو ميشا” من أنفاس وأنوار وصمْت وكلام.

سهى\أنا (أُناديه): جدّو؟

ميخائيل نعيمه: يا روحي.

أنا: بتحبْني؟

م.ن.: يا روحي، إيه.

أنا: خلّينا نصلّي سوا الصلاة اللي علّمتني عليها.

م.ن.: إيه.

نُصَلّي معًا، جدّو ميشا وأنا، صلاته التي علّمني إيّاها وأنا طفلة، ووعيْت على ذاتي وأنا أصلّيها (موجودة في كتابه “من وحي المسيح” – 1974). أصلّي صامتةً وأسجّل صوت جدّو ميشا متهدّجًا يتلوها بالإنكليزية: “يا مسيحي، بصليبك أتدرّع، وبمحبّتك ألتحف. وأشهد أنّ إنجيلك هو طريق الحقّ، وأنّ حياتك هي طريق الحياة. فأهّلْني أن أفهم إنجيلك وأن أحيا بحياتك” (ص 263). وأواصل دردشتي معه:

أنا: جدّو؟ مش حابب تروح على غرفة القعود؟

– م. ن.: لا، خلّيني هون.

– أنا: جدّو، بتتذكّر شوي من قصيدة “صنّين”؟ (غير منشورة في كتبه. كان نظمها لتلاميذ المدرسة الرسميّة في بسكنتا، وهو أدارها نحو سنتين إثْر عودته من هجرته الأميركيّة عقدين ونيّف، ووضَع لها لحنًا كي ينشدوها أثناء رحلتهم إلى بعلبك).

– أنا: بتقولْها؟

– م.ن.: إيه.

أقرِّب منه آلة التسجيل، ويتلو قصيدته عن صنّين، الجبل الذي تسلّقه ثلاث مرّات، واستقى منه الكثير من أفكاره واستوحى الكثير من كتبه، على رأسها “كتاب مرداد”. إنّه الجبل الذي ترك من أجله نعيمه ناطحات سحاب نيويورك و”دردورها” كي يتعبّد لخالقه وللطبيعة الساحرة الطيّبة المعلّمة في سفوحه. وبصوت جدّو ميشا البعيد المُتعب أعود حيث أنا، قرب سريره، أضغط على آلة التسجيل كأنّها طفلتي، ويردّد جدّو ميشا قصيدته:

صنّين يا زين الجبالْ      يا بكْر آيات الخيالْ

يا حاديًا ظعن الجمالْ   من فوق أشلاء السنينْ

صنّينْ  صنّينْ

صنّين يا وكر الفصولْ    يا كاسيًا عرْي الحقولْ

من روحك الأرضُ البتولْ   تُرضع ربوات البنينْ

صنّينْ   صنّينْ

عند هذا البيت من أصل خمسة مقاطع يتوقف جدّو ميشا تقاطعه القحّة والسعال (القصيدة محفوظة لديّ كاملة بخطّه وبخطّ والدتي ميّ).

3) 28 شباط/فبراير 1988: نحو الساعة 11:00 صباحًا.

خالي نديم مع شقيقته وعمّه في المنزل (الزلقا) وأنا معهما.

–  ميّ: شو رأيك عمّي تْروح ع غرفة القعود؟

– م.ن.: إيه.

تساعد مي عمّها لتنقله من غرفة نومه إلى زاويته في غرفة الجلوس.  يتمدّد في زاويته ويصمت برهة قصيرة ثمّ يتوجّه إلى ميّ:

– م.ن.: ولّعيلي سيجارة.

– ميّ: عمّي، مش لازم تتروّق قبل؟

– م.ن.: ولّعيلي سيجارة.

تولّع ميّ سيجارة لأنْكولتها (من كلمة ‘أنْكل‘ الإنكليزيّة التي تعني العمّ، زيادة في التحبّب) وتعطيه إيّاها. يأخذ من السيجارة بضع مجّات ثمّ يردّها لميّ.  تطفئها في المنفضة (ما زالت محفوظة من بيت الزلقا إلى بيت المطيْلب). تمرّ دقيقتان. يكرّر نعيمه طلبه:

-م.ن.: ميّ، ولّعيلي سيجارة.

تنْصاع ميّ لطلب عمّها الحبيب، وهو عمود البيت. يعاود طلبه، وتتوالى السجائر لتصبح ثلاثًا.  تطفئ ميّ السيجارة الثالثة. يغمض ميخائيل نعيمه عينيه في سبات عميق. يبدأ بعض اللعاب يتساقط من جانبي فمه. تمسحه ميّ بمحارم ورقيّة (ما زالت محفوظة لديّ مع السجائر الثلاث الأخيرة).

بعد الظهر:

يبدأ أفراد عائلة ميخائيل نعيمه الأوسع بالتوافد: بُشرى زوجة خالي نديم مع ولديهما ميشا ونسيب، يوسف (شقيق ميّ ونديم) وأولادُهُ الثلاثة زكية ونجيب وفيفيان، ووفود أحبّة وأصدقاء وأقارب وجيران: حليم نعيمه، الدكتور متري بولس وزوجته نجاة، المصوّر والفنّان ستافرو جبرا، جيران نعيمه في بناية الزلقا: سامية أبو خاطر قربان وزوجها رفيق، تِريز قرطباوي ضاهر وزوجها سامي، أوديت غصن وابنتها جاكلين، السمّان جوزيف بشعلاني ووالدته شولا، وسواهم.

ركعت قرب جدّو ميشا، موقنةً أنّه سيشعر بي ويسمع كلماتي الباطنيّة رغم غفوته. خاطبتُهُ في صمتي. ضغط على يدي وهو مغمض العينين. انهمرت  دموعي بخشوع، ممزوجة بحزن وفرح: الحزن أن لن أسمع بعد اليوم صوت حبيبي ولن أراه ولن أعانقه ولن أخبره تفاصيل يومي، والفرح ليقيني أنه لن يتركني، وسنظلّ نتواصل أبعد من السمع والبصر بعينين بليدتَين وكلام معلّب بحروف، لأنّ لنا الأبديّة والأزليّة تحليقًا وحرّيّةً ومعنى أبعد من أيّ حدود.

الساعة 10:20 ليلًا:

محاطًا بأفراد عائلته وبأحبابه لفظ ميخائيل نعيمه نفَسَه الأخير كأنه زفير سيجارته. هرعت أمي: “يا روحي أنتَ” كأنه بنفَسه الأخير لفظ أيضًا روح ميّ، ملاكه الحارس التي غادرتْنا عند الرابعة من فجر 15 كانون الثاني/يناير 2014، لأبقى وحدي هنا على الأرض، وحيدةَ ثلاثيّة “ميماسونا” واتحادها وتفانيها وتماسكها، أنتظر دوْري بعد بضع دورات للأرض كي أتّحد إلى الأبد بثُلْثَيْ روحي: جدّو ميشا وماماميّا.

فإلى اللقاء “يا حُبّيَ الباقي إلى الأبد”…

  • سهى حدّاد نعَيمه هي أستاذة جامعية وكريمة مي نعيمه “الملاك الحارس” للأديب والمفكر الراحل ميخائيل نعَيمه، والتي شهدت على آخر عشرين سنة من عمر الراحل حيث وُلِدَت في منزله وترعرعت في أكنافه.
  • في الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيله (28/2/1988 – 28/2/2022): يستقبل المنزل/المتحف في المطيلب زواره نهار السبت 26 الجاري بين الساعة 11:00 والساعة 6:00 مساءً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى