500 سنة بين الـمَرأَة والـمِرآة (1 من 2)

كاتارينا فان هِمْسِن

هنري زغيب*

في مقالٍ سابقٍ عن الرسمِ الذاتي في 3 حلقات (“أَسواق العرب”: 31 كانون الأَول/ديسمبر 2021، و4 كانون الثاني/يناير 2022، و7 كانون الثاني/يناير 2022) كتبتُ عن ريشة رسامين كبار رسموا وجوهَهُم. اليوم أَتناول الموضوع ذاته (في حلقتَين) عن ريشة رسامات رَسَمْنَ وجوهَهُنّ قبل 500 سنة حتى اليوم.

منذ الباحثةُ جنيفر هيدجي (م.1962) الناقدةُ الأُسترالية التشكيلية في مجلة “فْريز” للفنون المعاصرة (لندن) أَصدرَت كتابها الجديد “الـمَلْوَن والـمِرآة” قبل ثلاثة أَشهر (تشرين الثاني 2021)، ما زالت تحصد له تقريظًا وإِعجابًا، لأَنها رصدَت فيه رسامات، معروفات أَو مجهولات، زاولْنَ الرسم الذاتي أَمام مرآتهنَّ فأَنْتَجْنَ لوحات مبدعة فاضت منها ملامحُ مزاجهنَّ ونفسيَّتهنَّ قبل ملامح الوجه أَو وضعية الجسد.

بعضُ أَهمية دراستها أَنها قاربت موضوعًا كان في الغرب غريبًا، بل نوعًا من “التابو”، حرَّمتْه فئات المجتمع القانونيةُ والدينية والثقافية والاجتماعية، ما صعَّبَ المسيرة الفنية على الرسامات، كأَنَّ الرسم الذاتي مقتصر على الرجال فقط. وحتى زمن غير بعيد، ما كانت المتاحف تشتري أَو تقتني أَو تعرض لوحاتهنَّ، ولا كان مؤَرخو الحركة التشكيلية يعترفون بأَعمالهنَّ، ونادرًا ما كانت الغالريات تعرض لهنَّ.

إِلى هذا الحدّ، حتى في الغرب الـمُفتَرَض أَنه منفتِح، كانت الرسَّامة في منزلة أَدنى تقديرًا من زملائها الرسامين.

ماري بايل

في البدء كانت امرأَة

الرسم النسائي عريق في التاريخ، ومنه الرسم الذاتي الذي يرجِّح باحثون أَن يكون ابتدأَ، عنفوانيًّا، مع امرأَة. ففي الدراسات الأَكاديمية أَنَّ أَقدم رسم ذاتي لامرأَةٍ أَمام مرآة وضعَتْه الرسامة اليونانية “آيا” (القرن الأَول قبل المسيح). الرسم ضاع، لكن معظم لوحاتها رسْمُ نساء.

هنا لمحة عن بعض رسامات أَنجزْنَ لوحات ذاتية لوجوههنَّ أَمام المرآة.

البلجيكية كاتارينا ڤان هِمْسِن (1528-1587)

لعلَّ لوحتَها أَقدمُ ما وصلَنا من رسوم ذاتية نسائية. وفي أَسفل لوحتها كتبَت: “أَنا كاتارينا هِمْسِن، رسمتُ وجهي سنة 1548، وأَنا في سن العشرين”. ومن السِيَر التشكيلية، غالبًا ما عاينَّا في الفن النَسَويّ أَن والد الفتاة هو مَن كان يُتيح الفرصة لموهبة ابنته أَن تَتفتَّح وتَنضُج. وهذا ما حصل لكاتارينا التي كان والدُها يان رسامًا هو الآخَر، فشجَّعَها حتى لهي اليوم أَقدمُ رسامة بلجيكية فلَمَنكية وصلَتْنا أَعمالُها. وأَكثر: هي أَقدمُ امرأَة رسمَت لوحة ذاتية لها أَمام مَلْوَنِها. ولوحاتها الأُخرى كانت لوُجوه أَثرياء في بيئتها، معظمُهم من النساء، ولها عدد من اللوحات ذات المشاهد الدينية.

البريطانية ماري بايل (1633 – 1699)

هي أَقدم الرسامات البريطانيات المحترِفات. اشتهرت برسم الوُجوه فكانت نجمتَه في القرن السابع عشر. وزاد من شُهرتها وبقاء أَعمالها أَنها كانت كذلك كاتبة. أَصدرَت سنة 1663 كتابها “ملاحظات ماري بايل” فصَّلَت فيه أَفضل طريقة لرسم المشمش، فكانت أَولَ امرأَة تُصدِرُ بالإِنكليزية كتابًا عن تقْنية الرسم. تولَّى زوجها تشارلز تدوين مُفكّرة دقيقة مفصَّلة عن نشاطها اليومي، عن أَسماء من كانوا يوصونها على لوحة، عن طريقتها في الجلوس إِلى الـمَلْوَن لرسم الوجوه بكل دقة ورَهافة، وعن أَعماها التجريبية الخاصة لتطوير رسمها نحو الأَفضل.

إِليزابيت لوبران

الفرنسية إِليزابيت لو بران (1755 – 1842)

اشتهرت كـأَفضل رسامة وجوه في عصرها، وكانت شاهدة على معظم تقلُّبات تلك الفترة من الثورة الفرنسية وتحوُّلات الفن التشكيلي. ولصداقتها المقرَّبة جدًّا من ماري أَنطوانيت (رسمَت لها ولأَولادها نحو 20 لوحة) تقرَّبَت من القصر الملكي ولويس السادس عشر ورسمَت للقصر عددًا كبيرًا من اللوحات. مع انفجار الثورة الفرنسية هربَت من پاريس إِلى روما فإِلى روسيا، ولم تعُد إِلى فرنسا إِلَّا سنة 1809، وطوال أَسفارها لم تتوقَّف عن رسم الوجوه حتى غدَت يقصدها كبار الأَغنياء ليحظَوا بنتاج ريشتها. من أَشهر لوحاتها: رسم ذاتي لها وهي تعتمر قبَّعة ذات ريشة (1782) وجَد فيها بعض النُقاد تقليدًا للوحة روبنز “المرأَة ذات القبَّعة والريشة” (1625). ولوحتُها الذاتية تلك كانت مدخلًا لها إِلى عضوية “الأَكاديميا الملَكية للرسم والنحت” (پاريس 1783) بدعم مباشر من ماري أَنطوانيت.

أَدلايـيـد غُوِيَّار

الفرنسية آدلايــيـد غْوِيَّار (1749 – 1803)

كانت معاصِرةً إِليزابيت لو بران، ومثْلَها رسامةَ وجوه أَعلام عصرها. أَتقنَت الرسم الزيتي والطبشوري (الباستل). وهي أَول امرأَة نالت الإِذْن بفتْح محترف خاص لها ولطالباتها في متحف اللوڤر. لوحتُها الذاتية الشهيرة (1785) ووراءَها طالبتاها ماري غبريال كاپــيــه وماري مرغريت دو روزموند، لعلَّها أَشهرُ لوحة في تلك الفترة. بعد محاولات متكرِّرة للدخول إِلى “الأَكاديميا الملَكية للرسم والنحت” وضعَت رسومًا لعدد من أَعضائها أَعجبَت نقاد تلك الحقبة فكتبوا عن مهارة ريشتها، وعلى إِثْر ذلك تمَّ دُخولها إِلى الأَكاديميا في السنة ذاتها مع لوبران.

الإِيطالية آرتيميسيا جِنْتيلِسْكي (1593 – 1656)

هي أَبرز تشكيلـيـي العصر الباروكي، وإِحدى أَوائل نساء زاولْنَ التجربة النسَوية ذاتَ أُسلوب التورية، ما أَتاح لهنَّ التعبير عن ذاتهن في حريةٍ لم تكن متاحة لهُنَّ في حياتهن اليومية. أَول لوحة أَنجزَتْها لدى وصولها إِلى فلورنسا سنة 1613 كانت “لوحة ذاتية لامرأَة شهيدة”، ثم وضَعَت لوحتها الذاتية الشهيرة التي تتماهى فيها مع شخصية القديسة كاترينا الإِسكندرانية (1616). وكانت عصرئذٍ جُرأَةً من رسامة قسا عليها مجتمعُها فرسمَت هذه اللوحة الذاتية بهذه الحيوية الباهرة في التورية. اللوحة حاليًّا لدى المتحف الوطني في لندن.

(تبقى 6 رسامات مبدعات للجزء الثاني من هذا المقال “أَسواق العرب” الثلثاء المقبل)

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى