صورةُ لبنان بين شَهادة الأَرْز وشِحادة الأَرُزّ

هنري زغيب*

مشهدان من باريس الأُسبوع الماضي: الأَوَّل مُفَـرِّح والآخَر مُتَرِّح، وما أَكثرَ الأَتراحَ، هذه الأَيام، وأَندرَ الأَفراح.

مصدَرُ الفرح ما وجدتُهُ في أَرشيف “المؤَسسة الوطنية الفْرَنسية للمحفوظات السمْعية والبصرية”: حلقةٌ تلفزيونية من برنامج ثقافي قديم بإِدارة الكاتب والإِعلامي الشهير بِـرنار پـيفو  Pivotيسأَل فيها نخبةَ أُدَباء ومفكِّرين فْرَنسيين عمَّا يَتَمَنَّون أَن يكونوا، لو انهم وُلِدوا نَبْتةً أَو زهرةً أَو شجَرة. وتهاطلت الأَجوبة بين من تَـمَنَّت أَن تكون وردةً أَو مانْيُوليا، ومَن تمنَّى أَن يكون سَرْوَة أَو شجَرة تفاح، وهكذا… حتى جاء دورُ الكاتب المعروف آلان دُوكو Alain Decaux  (1925-2016) فقال ببعض اعتزاز “أَتمنى أَن أَكون أَرزةً من لبنان”.

مصدرُ التَرَح ما وصلَني قبل أَيام أَنّ مدينة سانتُني ( Santenyمدينة من مقاطعة إِيل دو فْرَانس في ضاحية باريس) أَرسلَت إِعلانًا إِلكترونيًّا واسعَ الانتشار، تَعاوُنًا مع جمعية رْوَاي مالميزون، أَطلَقَتْ فيه حملةَ تَبَرُّع ودَعم لـ”مُساعدة شعب لبنان”. وفي تفاصيل الحملة أَنْ “يَـجُودَ” أَهلُ تلك المنطقة بما يستَغْنون عنه من ملابس وأَحذية وأَرُزّ وحبوب وسُكَّر وزيت وطحين وحليب أَطفال وصابون وأَدوية لا تتطلب وصْفة طبية، وحفَّاضات وضمَّادات للجروح ومواد صحية نسائية ومعلَّبات غيرِ منتهيةِ الصلاحية، وسواها مما تعلنُ عنه عادةً جمعيات الغَوث حين تَطلُب إِعاشاتٍ وتبرُّعاتٍ للمهَجَّرين واللاجئين والنازحين والمساكين والأَيتام والفُقَراء البائسين.

ولَــكُنَّا نغُضُّ الحديث عن ذلك وننتظرُ تعويضًا من السلطة اللبنانية، لولا أَنَّ هذه السُلطةَ شحَّادةٌ بشهادة رسمية، مذعورةٌ تَطرح الصوت على سفرائها في الخارج طالبةً إِليهم أَن يطرحوا الصوت على المانحين في بلدان العالم لـ”مُساعدة البعثات الدِبلوماسية اللبنانية على تغطية نفقاتها التشغيلية”، سعيًا للحصول على تبرُّعات المهاجرين اللبنانيين في تلك البلدان.

هكذا إِذًا هذه السلطة اللبنانية: تترجَّى من المهاجرين أَن يتَبَرَّعُوا لها وتعمل على حرمانهم من الانتخاب لأَنها تعرف أَن الـمُهاجرين سيَسْحَقونها في صندوقة الاقتراع. وها هي تَسحَق الـمُقيمين فتجعَلُهم شحَّادين على أَرصفة الدُوَل فيما هي تُوغِل مستمرَّةً في صفقاتها وسمسراتها ومكابراتها وإِنكاراتها كأَنَّ الوضع عاديٌّ وفي أَفضل حال. مع كل ذلك، وفوق كل ذلك، وبالرغم من كل ذلك، وعلاوةً على كل ذاك، وفضلًا عن كل ذلك، ها أَركانُها الأَشاوس هذه الأَيام، يَنشَطون، وبكل صفاقةٍ ووقاحة، استعدادًا للترشُّح إِلى الانتخابات المقْبلة، مُطيحين جميعَ جرائمِهم بحقّ الشعب اللبناني، مقيميه والـمُهاجرين.

لا. لم يعرف تاريخُ العالم سياسيين قادُوا بلدانَهم إِلى الإِفلاس، وشعوبَهُم إِلى الفَقْر والذُلّ والتعاسة، ثم – بكل وقاحةٍ – يعودون فيَطرحون على شعبهم أَن يترشَّحوا مُجدَّدًا لأَجله وفي سبيله لإِنقاذه من الفَقْر والذُلّ والتعاسة.

نعم. إِلى هذا الانحطاط بلغَت هذه السُلطة: أَن تَكْتَعَ يدَها وتَندارَ تَشْحَد غذاءً وكهرباءَ ونفطًا من دُوَل تُسَميها، تخفيفًا، “الدُوَل المانحة” عوَض “الدُوَل الـمُشَحِّدة”، وبلغَت هذه السُلطة أَنْ تُوْدِي بشعبها إِلى نشْر صورتِهِ في العالم شعبًا بائسًا باكيًا بَكَّاءً متباكيًا مستبْكيًا شحَّادًا يستثير الشفقة والرحمة والإِغاثة والمساعدة من شعوب العالم.

لكنَّ شعبَنا ليس كذلك، ولن يكون. شعبُنا ليس بائسًا بل غاضب. شعبُنا ليس شحَّادًا بل مُتَوهِّج الكرامة. شعبُنا يَعرف جلَّاديه ولن يمنحَهُم كرباجًا جديدًا ليَجْلدوه به من جديد.

وبين الأَرْز في جواب آلان دوكو Decaux والأَرُزّ المعروض تَشْحيدُه شَعبَ لبنان، يَعرف شعبُنا الفَرق بين الأَرْزِ والأَرُزّ، بين الدائم الخالد والـمُوَقَّت البائد، بين رجال دولة جديرين عمَّروا لبنان بِعُلُوّ الأَرْز رَمزِه في العالم ورجالِ سياسةٍ حقيرين جعَلوا لبنان يَشْحَد الأَرُزّ من دُوَل العالم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى