التحوّل الذي لم يَكُن: قراءةٌ خاطئةٌ لسياسةِ “صفر مشاكل” الإماراتية

جانلو سمعان*

سلّطت التحليلات الأخيرة للسياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة الضوءَ على علاقاتها الديبلوماسية الجديدة تجاه خصوم سابقين مثل تركيا وقطر وإيران. حيث أشارت الزيارات، التي قام بها الشيخ محمد بن زايد -الحاكم الفعلي لدولة الإمارات- أو شقيقه ومستشار الأمن القومي الشيخ طحنون بن زايد، في النصف الثاني من العام 2021، إلى أنقرة والدوحة وطهران، إلى تحوّلٍ في الديبلوماسية الإقليمية الإماراتية. لكن نظرةً مُتمعّنة على الأجندة الأمنية لأبو ظبي تدعو إلى توخّي الحذر. في الواقع، تتضاءل هذه النشاطات الديبلوماسية مُقارنةً بالركائز الأخرى للسياسة الخارجية الإماراتية، أي تعميق تعاونها العسكري مع شركاءٍ جدد مثل إسرائيل وشركاءٍ تقليديين مثل الولايات المتحدة.

ظاهريًا، بدا أن هذه الاجتماعات تشير إلى تحوّلٍ عن استراتيجية المواجهة التي اتبعتها الإمارات في العقد الفائت. وسرعان ما صاغ هذا التحولُ سياسة “صفر مشاكل” إماراتية. يخدم هذا الخطاب، إلى حد ما، مصالح أبوظبي في استعادة سمعتها الدولية التي شوَّهتها إلى حدٍّ ما سنوات من التدخلات المثيرة للجدل، بما فيها دور الإمارات في اليمن وليبيا. كما أنه يُغذّي التوقّع العام للإمارات باستخدام الديبلوماسية والقوة الناعمة، لا سيما أنها تتولى مقعدها غير الدائم في مجلس الأمن الدولي للفترة 2022-2023.

من المفارقات، أن تعبير “صفر مشاكل” ذاته كان اختراعًا تركيًا، على وجه التحديد أطلقه أحمد داود أوغلو، عندما تولى زمام السياسة الخارجية لأنقرة في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في ذلك الوقت، وقعت تركيا اتفاقات مع سوريا وإيران، في الوقت الذي تعتمد، بشكل وثيق، على حلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة في المسائل الأمنية. تهدف استراتيجية داود أوغلو الكبرى إلى بناء “عمقٍ استرتيجي” من خلال موازنة مصالح تركيا بين حلفائها الغربيين وشركائها في الشرق، لكن، في نهاية المطاف، انهارت الاستراتيجية وسط الاضطرابات العربية في العام 2011 وعجز أنقرة عن الحفاظ على سياسة الجوار المحايدة. وبالتوازي مع ذلك، تأتي اليوم الديبلوماسية الإماراتية “الجديدة”، التي تكرر أيضًا سياسة قطر للوساطة الإقليمية منذ العقد الماضي، وهي السياسة التي أثارت خلافها مع الرياض وأبو ظبي.

ومع ذلك، فإن الفكرة القائلة إن الإمارات تُغيّرُ جوهرَ سياستها الخارجية، هي مبنية في النهاية على سلسلة من الافتراضات غير الدقيقة. أولها استنتاج مفاده أن هذا التوازن الظاهري لأبوظبي مدفوع بتآكل شراكتيها الأساسيتين – مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.

من المُسَلَّم به أن هناك أسبابًا لإحباط أبو ظبي من كلا البلدين، لكن المحللين يميلون إلى المبالغة في تقدير تداعياتها. يدرك المسؤولون الإماراتيون رغبة الولايات المتحدة في الانسحاب من الشرق الأوسط والتركيز على المحيطين الهندي والهادئ. لكنهم يرون أيضًا تناقضًا بين الخطاب المُلتهِب في واشنطن والوجود الدائم للقوات الأميركية في المنطقة.

في الواقع، عانت العلاقات الإماراتية-الأميركية من استياء واشنطن من تعاون أبو ظبي مع الصين في المجالات الحساسة – من اختيار الشركة الصينية “هواوي” لتشغيل شبكات الجيل الخامس (5G) إلى الكشف عن مشروع صيني لبناء منشأة عسكرية بجوار ميناء أبو ظبي. لكن من غير المحتمل أن تكون أبوظبي قد اعتبرت تقاربها مع الصين بديلًا من تعاونها مع أميركا. هذا الوضع ليس إعادة توازن بقدر ما هو سوء تقدير من جانب الإماراتيين الذين يجدون أنفسهم الآن في موقف حساس لتقليص تعاونهم مع بكين من أجل طمأنة الأميركيين وحفظ ماء الوجه. لذلك، ستستمر الولايات المتحدة بوصفها الشؤيك الأهم لدولة الإمارات.

بالمثل، يبدو التحالف الإماراتي مع السعودية هشًا في الوقت الحالي، لكن المراقبين يميلون إلى تضخيم التوترات بين أبوظبي والرياض، بالطريقة نفسها التي بالغوا فيها في تقدير حجم التحالف في المقام الأول. في الأساس، كان التحالف السعودي-الإماراتي زواج مصلحة بين شريكين غير متكافئين – هيمنة إقليمية ودولة صغيرة – يشتركان في بعض الأهداف المشتركة وليس كلها. تدرك القيادة الإماراتية جيداً الهشاشة المحتملة لعلاقة أبو ظبي بالرياض. ويتجلى ذلك في يقظة صانعي القرار  في أبو ظبي عندما مُنع المواطنون الإماراتيون، لفترة وجيزة، من دخول السعودية نتيجة نزاع حدودي لم يتم حله. ويستمر هذا الأمر إلى يومنا هذا، فبينما قد يختلف البلدان في قضايا عدة، مثل الوضع النهائي المنشود في حرب اليمن، وقد يتنافسان أيضًا بشكل علني في سياسات النفط والأعمال، إلّا أن أبوظبي لا ترى بديلًا جادًا من علاقاتها الوثيقة مع المملكة.

الافتراض الخاطئ الثاني هو فكرة أن أبو ظبي، “إسبرطة الصغيرة” في الخليج، تتخلى عن توظيف جيشها كأداة للسياسة الخارجية. من ناحية، لم تصل المشاركة الديبلوماسية مع تركيا وقطر حتى الآن إلى أيّ شيء ملموس بخلاف الزيارات رفيعة المستوى. ومن ناحية أخرى، إلى جانب الديبلوماسية، أدت الشراكة الجديدة للإمارات مع إسرائيل إلى توسع كبير في التعاون العسكري بين البلدين، حيث التقى مسؤولون استخباراتيون وعسكريون من البلدين علنيا وبمعرفة عامة بهذه العلاقات المتنامية.

على سبيل المثال، أقرت أبو ظبي بأنها كانت تشارك الإسرائيليين المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بقدرات “حزب الله” في تنفيذ الهجمات الإلكترونية. علاوة على ذلك، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وحده، قام رئيس القوات الجوية الإماراتية، اللواء محمد العلوي، بزيارة إسرائيل. وبعد شهر، شاركت القوات البحرية الإسرائيلية والإماراتية، لأول مرة، في مناورة مشتركة تحت رعاية الأسطول الخامس الأميركي. أثبتت هذه المناورات البحرية، التي تجري في البحر الأحمر، عزم الإسرائيليين والإماراتيين على تجاوز الفكرة المجردة لتطبيع العلاقات. لقد كانت المناورات بمثابة إشارة ردع للحرس الثوري الإسلامي الإيراني الذي تنخرط سفنه بانتظام في تكتيكات المضايقة في المنطقة البحرية في الخليج. يمكن القول إن رسالة الردع هذه أكثر أهمية من زيارة الشيخ طحنون لطهران.

مرة أخرى، تكشف حقيقة أن البحرية الأميركية هي الجهة التي نسقت التدريبات البحرية. فإلى أي مدى ستبقى الولايات المتحدة حليفًا رئيسا للإمارات ولقراراتها الاستراتيجية المتعلقة بالسياسة الخارجية؟ في الفترة نفسها، انضمت أبو ظبي أيضًا إلى المبادرة الأميركية الجديدة للحوار الرباعي الذي يضم الإمارات، والهند، وإسرائيل، وواشنطن. عُقد الاجتماع في تشرين الأول/ أكتوبر2021، وسُمي على عجل بـ”رباعي الشرق الأوسط”، عاكسًا مبادرة مماثلة بقيادة الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وعلى جدول الأعمال عَقدُ اجتماع ثان في آذار/ مارس 2022. على الرغم من أن التداعيات الأمنية، لهذا التحالف الجديد، التي لم تظهر بعد، فإن المشاركة في هذا التحالف هي دليل آخر على نية أبو ظبي ترسيخ سياستها الأمنية لمصالح واشنطن.

لذلك، لا ينبغي تضخيم مدى التحوّل في السياسة الإقليمية لدولة الإمارات وتبنّيها المفترض لنهج جديد خالٍ من المشاكل. يبدو أن حدة عدم الاستقرار الإقليمي قد خَفَت الآن، ولكن هذا سيكون مؤقتًا فقط. فقد أدت الزيارات رفيعة المستوى، إلى حد ما، إلى تخفيف التوترات الإقليمية، لا سيما في البلدان التي تظل فيها السياسة ذات طابع شخصي للغاية، لكنها لم تتجسد في أيّ آليات جديدة ملموسة لتسوية النزاعات الموجودة من قبل. حرب المعلومات بين الدوحة وأبو ظبي لم تختفِ أيضًا: حيث يواصل القطريون والإماراتيون مواجهة بعضهم البعض من خلال وسائل الإعلام الحكومية وغير الحكومية، كما يتضح في الحظر المستمر لقناة “الجزيرة” القطرية في الإمارات.

في غضون ذلك، لم يمنع التعامل مع طهران أبوظبي من تعزيز قدرات الردع لديها، سواء من خلال مناوراتها البحرية مع إسرائيل أو من خلال تحديث قوتها الجوية، كما ظهر أخيرًا بشراء 80 طائرة مقاتلة جديدة من طراز رافال الفرنسية. قد تؤدي الشكوك حول احتمال تورط الحرس الثوري الإسلامي الإيراني في الموجة الأخيرة من الهجمات الصاروخية والطائرات المُسَيَّرة على أبوظبي من اليمن إلى عرقلة عملية بناء الثقة بين الإمارات وإيران. على المنوال عينه، من المرجح أن تتخلى أبوظبي عن خطاب المصالحة والعودة إلى استراتيجية الاحتواء، إذا فشلت المحادثات النووية الجارية بين القوى العالمية وإيران. بشكل عام، تُركّز قراءات سياسات أبوظبي الإقليمية على المفاهيم الخاطئة لتحوُّلٍ إماراتي كبير نحو التوافق والتقارب، رُغم ذلك، لا تزال الإمارات تؤمن بأولوية الوسائل القسرية لدعم أهداف سياستها الخارجية.

  • جان-لو سمعان هو باحث في معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة سنغافورة الوطنية، وهو باحث مشارك في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية.يمكن متابعته عبر تويتر على: @JeanLoupSamaan

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى