استراتيجِيّةُ التَعطيلِ الروسيّة تتجاوزُ الأزمةَ الأوكرانية

الحقائق الإستراتيجية – استخدام روسيا للجماعات المسلحة السرية، وإضعافها المُستهدِف للتحالفات الإقليمية وقدرتها على استغلال التوترات بين الدول المتنافسة – ستجعل الاستجابة ضد موسكو صعبة للغاية، الآن وفي المستقبل.

الرئيس فلاديمير بوتين: قطاع الأمن الخاص “ليس الدولة الروسية، وهو لا يشارك في القتال”.

ميشال مظلوم*

في الأسابيع التي انقضت منذ أن بدأت روسيا حشدها العسكري على الحدود الأوكرانية، سارعت الولايات المتحدة وحلفاؤها للرد بسرعة وبقوّة. وفقًا لمسؤولي المخابرات الأميركية، فإن أكثر من 100,000 جندي روسي تم حشدهم حتى الآن سيكونون قادرين على شنِّ غزوٍ واسع النطاق. ومع قيام حلف شمال الأطلسي (الناتو) بتجميع قواته الخاصة في لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، من الواضح أن التصعيدَ هو احتمالٌ حقيقي.

ومع ذلك، فإن قرارات موسكو الاستراتيجية في العقد الماضي – في أوكرانيا ولكن أيضًا في جميع أنحاء العالم – جعلت من الصعب جدًا الرد بنجاح على عدوانها. التعزيز الأخير هو أوضح تعبير عن الطموحات العسكرية الروسية منذ سنوات، ولكن في الوقت عينه استمرت الجهات الفاعلة العنيفة المرتبطة بروسيا في الانخراط بشكل استراتيجي في النزاعات حول العالم، ما سمح لموسكو توسيع نفوذها – وعرقلة الانتقام والعقاب.

على سبيل المثال، شهدت السنوات الأخيرة صعود المرتزقة الروس، الذين انخرطوا في صراعات من الساحل في إفريقيا إلى الشرق الأوسط، ما سمح للدولة الروسية البقاء منخرطة في الخارج، مع الاحتفاظ بمسافة كافية لإخفاء مشاركتها. الأبرز بين هذه المنظمات شبه العسكرية هي مجموعة فاغنر، وهي شركة أمنية عسكرية روسية خاصة لها علاقات مع الكرملين. عملياتها يكتنفها الغموض إلى حدٍّ كبير، لكن من المعروف أنها كانت نشطة في سوريا وليبيا والسودان والعديد من البلدان في إفريقيا وخارجها. تُوَفّرُ المجموعة لعملائها وزبائنها أسلحة للإيجار بالإضافة إلى التدريب والدعم، بينما تدافع أيضًا عن الاستثمارات والبنية التحتية الروسية الرئيسة. وكما حذّر كانديس روندو في “أسواق العرب” منذ أكثر من عامين، أصبحت مجموعة فاغنر “قناةً مهمة بين الأنظمة القمعية ومختلف الشركات التابعة لروسيا”، بما في ذلك شركات الأسلحة والطاقة التي تديرها الدولة.

من المعروف جيدًا أن الكرملين غالبًا ما يسعى إلى تحقيق أهدافه من خلال قواتٍ تعمل بالوكالة لها علاقات غير محددة مع الدولة الروسية، وليس من خلال تعبئة جيشها. بطريقة مماثلة، يسمح المتعاقدون الأمنيون الخاصون لروسيا بحماية مصالحها وتعميق التحالفات السياسية، مع الحفاظ على الإنكار المعقول لتورّطها.

من الصعب تحديد العلاقة الدقيقة بين منظمات مثل مجموعة فاغنر والدولة الروسية. الشركات الروسية التي تتعامل مع مجموعات المرتزقة هذه تمتلك غالبية أسهمها الدولة إلى حد كبير، ما يشير إلى روابط واضحة مع الكرملين. لكن من الصعب تقديم تفاصيل عن هيكل قيادة المجموعة. هذا الغموض الاستراتيجي يجعل من الصعب على الولايات المتحدة وحلفائها تحميل الكرملين المسؤولية عن أنشطة المرتزقة. بعد كل شيء، ادعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه أن قطاع الأمن الخاص “ليس الدولة الروسية، وهو لا يشارك في القتال”.

من خلال مجموعات المرتزقة هذه، تمكنت روسيا من تعزيز علاقات التبعية الأمنية مع الدول الشريكة بدون تكبّد خسائر عسكرية رسمية، وهو أمرٌ مهم للحفاظ على سمعة بوتين المحلية. على سبيل المثال، سعت جمهورية إفريقيا الوسطى إلى الحصول على دعم مجموعة فاغنر في العام 2017، عندما هدد العنف الإسلامي والعنف الطائفي بالحد من الاستقرار السياسي الهش الذي تحقق بشق الأنفس في البلاد. ساعد المرتزقة رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى فاوستين تواديرا على استعادة بعض السيطرة الإقليمية في أطراف البلاد. بعد سنوات، وفي مواجهة تحالف المتمردين الذي سعى إلى الإطاحة به، لجأ تواديرا إلى الجماعة مرة أخرى. خلال الهجوم المضاد هذا، في العام 2020، اكتسبت مجموعة فاغنر شهرة دولية بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان.

كما تستخدم روسيا المرتزقة في ساحتها الخلفية. على الرغم من أن أكثر تحركاتها البارزة قد تضمّنت القوة العسكرية – مثل تدخلها في الاضطرابات الداخلية في كازاخستان في الشهر الماضي وعرضها تقديم المساعدة العسكرية إلى بيلاروسيا في العام 2020 – إلّا أن التشكيلات المُبكرة من مجموعة فاغنر كانت نشطة في شرق أوكرانيا في العام 2014، حيث، كما قالت مجلة “إيكونوميست”، “عملت مجموعة من القوات مُقرّبة بدرجات متفاوتة من الحكومة الروسية”. وأفادت تقارير أخيرة أن روسيا تسحب بعض مرتزقة مجموعة فاغنر من مواقعهم في جمهورية إفريقيا الوسطى للمساهمة في الحشد الحالي في أوكرانيا.

بالإضافة إلى استخدامها للجماعات شبه العسكرية، حاولت روسيا إضعاف الكتل الإقليمية من خلال تعزيز علاقات التبعية مع الأعضاء الأفراد. هذا الاتجاه صارخٌ بشكل خاص في غرب إفريقيا، حيث وقعت أربعة انقلابات في الأشهر العشرين الماضية، بما في ذلك إثنان في مالي. وقعت غالبيتها في الولايات التي يُزعَم أن مجموعة فاغنر قد شاركت في حملات داخلية لمكافحة التمرد نيابة عن الحكومة. وبحسب بعض التقارير والمعلومات تَدَرَّبَ قادةُ الانقلاب في مالي في روسيا قبل استيلائهم على السلطة مباشرة، بينما ورد أن الانقلاب الأخير في بوركينا فاسو بدأ بعدما رفض الرئيس المخلوع الآن إعادة الاستعانة بمجموعة فاغنر.

كان الردّ الدولي على محاولات الانقلاب هذه سريعًا. مثل جيرانها، واجهت بوركينا فاسو على الفور انسحابًا سريعًا للمساعدات والتمويل من دول غربية متعددة، بما فيها الولايات المتحدة. في غضون ذلك، أصدرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، أو “إيكواس”، بيانًا قاسيًا ضد تصاعد الانقلابات وعلّقت عضوية مالي وغينيا وبوركينا فاسو – أي خمس أعضائها. شهدت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا نجاحًا محدودًا في الردّ على الانقلابات، والتي كان الدافع وراء بعضها هو فشل الحكومات المدنية في احتواء عنف المتمردين الإسلاميين – وربما بسبب دور روسيا في محاربتها.

وامتد زرع الخلاف الروسي داخل الكتل الإقليمية أيضًا إلى أوروبا. لقد ترك التعزيز العسكري الروسي الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في سباقٍ لتنسيق الرد، لكنهما كافحا أيضًا للردّ على أشكالٍ عدوانية أقل علنية. في الشهر الفائت، أشار الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أن الحلفاء في الناتو منقسمون بشأن كيفية الرد على أيِّ إجراءٍ تقوم به روسيا لا يرقى إلى مستوى الغزو الكامل، مثل “الهجمات الإلكترونية والتكتيكات شبه العسكرية”. في الواقع، بدأت الهجمات الإلكترونية بالفعل. في منتصف كانون الثاني (يناير)، على سبيل المثال، عندما وصلت المحادثات بين روسيا والناتو حول أوكرانيا إلى طريق مسدود، قام متسللون إلكترونيون (هَكَر) بتشويه وإسقاط العديد من المواقع الإلكترونية الحكومية الأوكرانية.

كما تهدد علاقات روسيا بالأعضاء الفرديين في الاتحاد الأوروبي بعرقلة استجابةٍ مُنَسَّقة. على سبيل المثال، لم تُقابَل تهديدات الولايات المتحدة بفرض عقوبات على بوتين ودائرته الداخلية بحماسٍ كبير في أوروبا، لا سيما بين الدول التي تعتمد على روسيا لاستيراد الغاز والطاقة. إيطاليا، على سبيل المثال، تحصل على أكثر من ثلث طاقتها من روسيا وفشلت في اتخاذ موقف قوي ضد الغزو المحتمل. بشكلٍ عام، أدى اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية إلى زيادة صعوبة عمل الاتحاد الأوروبي بشكل جماعي، مع تعزيز قدرة روسيا على تحمل أي عواقب مالية. لهذا السبب، من المرجح أن تُركّز أي عقوبات مقبلة على المراكز المالية الروسية وبنوك موسكو، بدلاً من قطاع الطاقة – على الرغم من حقيقة أن الأخيرة ستكون على الأرجح أكثر فاعلية في التأثير على تصرفات روسيا في أوكرانيا.

أخيرًا، أثبتت روسيا قدرتها على استغلال التوترات الجيوسياسية بنجاح لصالحها، كما يتضح من تعميق العلاقة بين موسكو وبكين. في ما يتعلق بأوكرانيا، أعربت الصين عن دعمها لروسيا في الأسبوع الماضي وانحازت إلى جانب روسيا في مجلس الأمن الدولي، في محاولة فاشلة لعرقلة اجتماع بشأن الأزمة. وقد وقّع البلدان أيضًا اتفاقات جديدة بشأن الطاقة والمصالح المشتركة الأخرى عندما زار بوتين بكين لحضور الأولمبياد أخيرًا. في الواقع، قد تكون الألعاب الأولمبية، بالإضافة إلى التوترات الأخيرة حول السيادة التايوانية، مثّلت فرصة لروسيا للاقتراب من الصين، وتحسين قدرتها على الصمود في وجه الانتقام الغربي.

كل هذه الحقائق الإستراتيجية – استخدام روسيا للجماعات المسلحة السرية، وإضعافها المُستهدِف للتحالفات الإقليمية وقدرتها على استغلال التوترات بين الدول المتنافسة – ستجعل الاستجابة ضد موسكو صعبة للغاية، الآن وفي المستقبل. نظرًا إلى انخراط كل من الولايات المتحدة وروسيا في سياسة حافة الهاوية الجيوسياسية في أوكرانيا، لا يمكننا أن ننسى أن المسرح قد تم إعداده منذ فترة طويلة – على نطاق عالمي – لهذه المواجهة.

  • ميشال مظلوم هو صحافي من أسرة “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى