السَرَطانُ و”كوفيد 19″: إنتصارُ العِلمِ وفَشَلُ السِياسَة

في مناسبة اليوم العالمي للسرطان يكتب الأخصائي العالمي في الأورام السرطانية البروفسور فيليب سالم مقالًا خاصًا ب”أسواق العرب” عن أمراض السرطان ونطور علاجاته، كما يتطرق إلى جائحة كوفيد-19 وتطوراتها.

كوفيد-19: أخطأت منظمة الصحة العالمية في إدارة الأزمة منذ البداية

الدكتور فيليب سالم*

قبل سنتين، ولسنين عديدة، كنّا في مثلِ هذا اليوم (الرابع من شباط/فبراير) نَقِفُ أمامَ عَرشِ السَرَطان، إمبراطورُ الأمراضِ كلّها، بخوفٍ وهَيبة. أمّا اليوم فقد جاء زائرٌ جديدٌ إلى الأرضِ يُنازِعُ السرطان على عرشه. إنه “كوفيد-19″، المَرَضُ الذي يُسبّبه فيروس كورونا، والذي يُهدّد البشرية جمعاء. الفَرقُ بين المَرَضَين كبيرٌ، إذ أنّ مرضَ “كوفيد-19” مَرحَليٌّ، يَفتُكُ ويَقتُلُ ويُدمِّر، ولكنه في النهاية سيرحل بعد سنة أو سنتين على الأكثر؛ أما السرطان فهو مَرَضٌ باقٍ على هذه الأرض، يُعذِّبُ ويَقتُلُ ويُحطِّمُ كرامةَ الإنسان. ولكن هناك ظاهرة واحدة تجمعُ بين الإثنين وهي الفجوة الشاسعة بين المعرفة التي نمتلكها من جرّاء تراكم الأبحاث العلمية، والمعرفة المُتاحة لنا باستخدامها في حماية البشر ومُعالجة المرضى.

نحنُ نمتلكُ اليوم المعرفة التي تُخوِّلنا الوقاية من السرطان في أكثر من 75% من الأمراض وأيضًا الشفاءَ التام في أكثر من 60% من المرضى. ولكن المعرفة التي نستعملها اليوم في الوقاية وفي العلاج هي أقل من 8% من هذه المعرفة المُطلَقة. خُذ مثلًا في الوقاية. فإن ثلث المرضى المصابين بالسرطان سبب الإصابة عندهم هو التدخين. والسؤال، ماذا فعلنا في هذا المضمار للقضاء على هذه الآفة؟ وفي ثلث الامراض السرطانية الاخرى سبب الإصابة هو الالتهابات الجرثومية كالالتهابات المتكررة في الكبد، والمثانة، والجهاز الهضمي، وغيرها من أعضاء الجسم. هذه الالتهابات إن عُولِجَت وهي في المراحل الأولى بواسطة المضادات الحيوية، نمنع تطوّرها الى مرحلة السرطان. وهناك لَقاحٌ جديد هو “لقاح فيروس الورم الحليمي البشري” (Human papillomavirus vaccine)،  الذي يَمنَعُ حصول الإصابة بسرطان عنق الرحم عند المرأة لأنه يحميها من الالتهابات الجرثومية في عنق الرحم التي هي بالتالي تُسبّبُ السرطان. وهناك دراسات تشير إلى أنه بالإمكان منع الإصابة بسرطان عنق الرحم بنسبة 85% لو تلقّت كل الفتيات بين عمر 10-30 سنة اللقاح بشكلٍ مُنتَظِم. ولكنه من المؤسف ان عدد الفتيات اللواتي يأخذن هذا اللقاح في العالم هو أقل من 5%. وبالإضافة الى التدخين والالتهابات الجرثومية المُتكرّرة هناك امراضٌ سرطانية أخرى يمكن الوقاية منها بعدم التعرّض المُكثّف للشمس وعدم التعرّض الى مادة “الحرير الصخري” (Asbestos) التي تُستعمَل عادةً في مواد البناء. وكذلك هناك امراضٌ يُسبّبها سوء استهلاك الكحول وبالأخص عند المدخنين. كل هذه الأسباب يمكن إزالتها والقضاء عليها.

والتقدّم الذي حصل في الآونة الأخيرة في معالجة الأمراض السرطانية كان مُذهلًا. لقد تطوّر العلاج الكيميائي كما تطوّر العلاج المُستَهدِف واكتُشِفَ حديثًا العلاج المناعي. إلّا أن المشكلةَ تَكمُنُ في القدرة على الحصول على هذه العلاجات الحديثة. إن إمكانيةَ الشفاءِ التام من الأمراض السرطانية تتوقّف على عوامل ثلاثة: نوعُ المرض، والاكتشافُ المُبكِر، وجَودَةُ العلاج. في الاكتشافِ المُبكِر نحنُ لا نزال على مسافةٍ بعيدة من هذا الهدف. وهناك حاجة ملحّة الى التثقيف الصحّي المُتواصِل للعامة والتثقيف المهني للأطباء في هذا المضمار. وقد نشأت حديثًا مَشكلةٌ جديدة وهي ضرورة تشخيصِ المَرَضِ بناءً على تحديد الهوية البيولوجية (genomic profiling )   له. كنّا في الماضي نُعالِجُ المريض بناءً على الهوية الميكروسكوبية أيّ كما يظهر المرض تحت المجهر. ولكنه اليوم لم يعد هذا كافيًا. لقد أصبح من الضروري تحديد الهوية البيولوجية بالإضافة الى الهوية الميكروسكوبية للمرض. بدون تحديد هاتين الهويّتَين يُصبحُ من الصعب صنع استراتيجياتٍ علاجية تقودُ إلى الشفاء التام. ومن المؤسف جدًا أن المختبرات التي تُعنى بتحديد الهوية البيولوجية ليست مُتَوَفِّرة في أكثر بلدان العالم.

وبالنسبة إلى العلاج، فبدل ان نشفي 60% من المرضى نحنُ نشفي اليوم أقل من 10%. هذا يعني أن 50% من المرضى يلقون حتفهم ليس لعدم قدرة الطب على شفائهم بل لعدم قدرة هؤلاء المرضى الحصول على أفضل العلاجات. وهناك سرٌّ في مُعالجةِ هذه الأمراض وهو أن الفرقَ بين العلاج التقليدي والعلاج الأفضل قد يكون الحياة. عقباتٌ كثيرة تَحُولُ دون العلاج الأفضل. من هذه العقبات شركات التأمين والسياسة الصحية للدولة وغلاء الدواء.

في السنتين الماضيتين شهد العالم ما لم يشهده من قبل. لقد اعتدى على الأرض كلها فيروسٌ جديد لم نعرفه من قبل. لم يُفرّق هذا العدو بين إنسان وآخر، بين فقير وغني، أو بين أبيض وأسود. لقد أحكَمَ هذا العدو قبضته على العالم، وقتل أكثر من ستة ملايين إنسان حتى يومنا هذا. كانت هذه الجائحة مظهرًا من مظاهر فشل السياسات الصحيّة في العالم، وعدم احترام الانسان للدور المحوري للصحة في حياته. ولكنها كانت في الوقت نفسه مظهرًا من مظاهر انتصار العِلم وعظمة البحث العلمي. في مدة زمنية تقل عن سنة طوّر العلماء لقاحاتٍ فعّالة مُتعَدّدة تحمي الإنسان ضد الالتهابات التي يُسبّبها هذا الفيروس، كما طوّر علاجاتٍ مُختلفة تُخفّف من حدّة المرض ومن قدرته على إحداثِ الوفاة. وفي الأشهر القليلة الماضية، اكتُشِفَت أدوية جديدة هي بمثابة حبوبٍ تُؤخذ لأول مرة بالفم؛ بينما كانت العلاجات من قبل تُعطى من طريق الوريد، ما يجعل المريض مُضطرًا للذهاب الى العيادات الطبية او الدخول الى المستشفى للحصول عليها. هذه الحبوب هي “باكسلوفيد” (Paxlovid)  التي تنتجها شركة “بفايزر” (Pfizer) و”مولنوبيرافير” (Molnupiravir) التي تنتجها شركة “ميرك” (Merck). ولقد اثبتت الأبحاث فعاليتها بنسبة عالية لمنع تطوّر المرض وتقدّمه من مراحله الأولى والطفيفة إلى مراحله الصعبة والمُتقدّمة. هذه اللقاحات وهذه الأدوية تُشكِّلُ انتصارًا للبحوث العِلمية وبالتالي رمزًا لقوّة العِلم وأهمّيته في دَعمِ الإنسان والحِفاظ على حياته وكرامته.

في الجهةِ المُقابلة كان هناك فشلٌ ذريعٌ للسياسة. لم تكن دولُ العالم مٌهيَّأة لردع هذا العدو. وكانت الدول التي تعتبر نفسها مُتحَضّرة كأميركا وبريطانيا وفرنسا قد وضعت سياسات دقيقة وبكلفة خيالية للوقاية من اعتداءٍ نووي؛ ولكنها لم تضع أية سياسات جدّية للوقاية من اعتداءٍ جرثومي كهذه الجائحة. ومنظمة الصحة العالمية التي أسّستها الأمم المتحدة خصيصاً لحماية الإنسان من الأمراض، لم تقم بدورها بشكلٍ فاعل. لقد فشلت هذه المنظمة باكتشاف المرض باكرًا وباحتوائه، كما فشلت في تحديدِ مَنشَئِه.  لقد علمت المنظمة بحالاتٍ مُتعدّدة من الالتهابات الصدرية المعدية وغير التقليدية التي ظهرت في الصين ابتداء من أيلول (سبتمبر) 2019 ولكنها لم تتمكّن من تحديد هوية الفيروس الذي سبب هذه الالتهابات قبل كانون الأول (ديسمبر) 2019. كما إنها لم تعترف أن هذه الإصابات تُشكّل جائحةً وخطرًا كبيرًا على البشرية جمعاء حتى آذار (مارس) 2020. بين أيلول (سبتمبر) 2019 وآذار (مارس) 2020 أصبح هناك 16 ألف إصابة في العالم، وصار المرض خارج دائرة الاحتواء. كان ذلك برأيي فشلًا تاريخيًا. وعندما طوّر العلم اللقاحات والأدوية لم تتمكّن هذه المنظمة من إيصال هذه اللقاحات والعلاجات الى العالم الفقير. إن الدورَ المَنوط بمنظمة الصحة العالمية هو صنع سياسات وآليات تتمكّن من خلالها من توفير العلاج إلى كلّ الذين يحتاجون إليه، وبالأخص إلى الذين ليس بقدرتهم شراءه. ونحن نعلم اليوم أن أهمَّ عقبة تُواجِهُنا للقضاء على هذا الفيروس تتمثّل بوجود أكثرية في العالم لم يتوفّر لها اللقاح. فوجودُ هذا العدد الكبير من عدم المُلَقَّحين في إفريقيا وآسيا يُشكّلُ خطرًا على البشرية جمعاء.  إذ إن هؤلاء يوفّرون الفرصة الخطرة للفيروس ليتمحوَر بيولوجيًا بحيث يُصبح أكثر فتكًا وضررًا. وإذا كانت هناك حاجة للعولمة في العصر الحديث، يجب أن تكون هذه العولمة أوّلًا في مجال الصحة، وفي تفعيل منظمة الصحة العالمية لتتمتع هذه المنظمة بالقدرة الكافية لحماية الانسان في المستقبل من الجراثيم التي قد تكون أكثر شراسةً وضررًا من فيروس كورونا.

إن ما عانيناه في زمن هذه الجائحة من خوفٍ ومَرَضٍ وموتٍ يجب أن لا يمرّ “مرور الكرام”. لقد كانت الجائحة بالطبع مأساةً كبيرة، ولكن المأساة الأكبر هي ان ندعها تمر بدون أن نتعلّم منها شيئًا.

وماذا يُمكننا أن نتعلّم منها؟ يمكننا ان نتعلم الأمور التالية:

أوّلًا: إن البحث العلمي هو الطريق لصنع المعرفة، والمعرفة هي ضرورة قصوى ليحيا الإنسان، ولتكون هذه الحياة غنيّة بالمعنى مُثمرة بالإنتاج. لذا ندعو إلى تغييرٍ جذري في فلسفة التربية بحيث لا يكون التعليم الجامعي عملية تلقين من الأستاذ الى الطالب، بل ليكون عملية تدريب للعقل.

ثانيًا: هناك فجوة كبيرة بين ما نعرفه بالمطلق وبين ما نضعه من هذه المعرفة في خدمة البشر. لذلك يجب صنع سياساتٍ صحّية وآلياتٍ دقيقة لتنفيذها حتى نتمكّن من وضع المعرفة التي نمتلكها في المطلق كلها وليس جُزءًا ضئيلًا منها في خدمة الإنسان.

ثالثًا: نأمل ان نكون تعلّمنا أن الصحّة هي أهمّ ما يمتلكه الإنسان. وأنه يجب أن تكون الرعاية الصحية هي الأولى في سُلّمِ الأولويات لأيِّ دولة أو مجتمع في العالم. وكذلك يجب تطوير شرعة حقوق الانسان ليكون الحق في الصحة هو أهم حق للإنسان. إن كل الحقوق التي تتكلم عنها شرعة حقوق الانسان مجموعة مع بعضها البعض لا ترتقي لتكون بأهمية الحق في الصحة، إذ أن الحقَّ في الصحّة هو بمثابة الحق في الحياة. يجب أن يحيا الإنسان أوّلًا لكي يمارس الحقوق التقليدية التي تتكلّم عنها شرعة الأمم المتحدة. الحياة أوّلًا ثم تأتي الحقوق. ليست هناك حقوقٌ بدون حياة.

  • الدكتور فيليب سالم هو طبيبٌ وباحثٌ وأستاذٌ ورجلُ دولة عالمي في طبّ السرطان مُقيم في هيوستن، يعملُ كمديرٍ فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى