موزار قائدًا في بـراغ (2 من 2)

بلاطة رخامية على بيت سكنه موزار

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذا المقال (“أَسواق العرب” الإثنين31 كانون الثاني/يناير الماضي) عرضتُ ما كان لموزار في پراغ من تكريم ساطع. غير أَنه في زيارات له لاحقة، كرَّمتْه پراغ واحتفت به على حياته، وطويلًا بعد غيابه. فما الذي لاقاه موزار في پراغ؟

من الجدري إِلى “دون جوان”

زار موزار پراغ مرَّةً أُولى فتًى في العاشرة عندما تفشَّى مرض الجدري في ڤـيـيـنّـا سنة 1766، فهربَت عائلته إِلى مدينة أُولوموك (مقاطعة موراڤيا التشيكية). واشتدَّ عليه المرض، فأَودعه أَهلُه عمدة كاتدرائية المدينة. وفي فترة نقاهته أَلَّف السمفونيا رقم 6، وبقي في أُولوموك من تشرين الأَول/أُكتوبر حتى نهاية كانون الأَول/ديسمبر 1767 حين عادت عائلته إِلى فيينا.

ثم كانت له عودةٌ مرتين في سنة واحدة: 1787. الأُولى في 20 كانون الثاني/يناير (ذكرتُها في الجزء الأَول من هذا المقال)، والأُخرى كانت ليقود الأُوركسترا في العرض الأَول لأُوپراه “دون جوان” (29 تشرين الأَول/أُكتوبر) في صالة “مسرح المدينة”. وفيها اليوم بلاطة برونزية تذكارية لتلك الزيارة التي سُرَّ بها حتى صرَّح: “جمهور پراغ أَفضل من يتذوَّق موسيقاي”.

بقي في پراغ طيلة تشرين الأَول/أُكتوبر وتشرين الثاني/نوڤمبر. لعب البلياردو وتمتَّع بمذاق خمرها في حانة قبالة المسرح. ورافقه في تلك الرحلة كاتبُ قصائد الأُوپرا الشاعر الأَب لورنزو دا پونْتِه (1749-1838).

أَيقونة رخامية لموزار في “شارع الفحم”

ألَّف أُغنية وهو محجور

من المرويَّات عن تلك الإِقامة أَن البورجوازيّ فرانتز دُوزيك استضافَه في قصره الفخم (ڤيلا بيرْتْرامكا) وطلب منه كتابة أُغنية أُوپرالية لزوجته جوزيـپـينـا (أَشهر سوپرانو فترتئذٍ)، وحجَر عليه في غرفةٍ من القصر حتى أَنهى تأْليفها، فكانت “وداعًا يا نور حياتي” (عن كلمات العالم الإِيطالي ميكيل ساكوني: 1731-1797). والڤيلَّا اليوم تحوَّلَت “متحف موزار”، أُنشئ على اسمه سنة 1956.

في تلك الرحلة أَيضًا قام موزار في 16 تشرين الثاني/نوڤمبر 1787 بزيارة دير سْتْراهوڤ التاريخي (تأَسس سنة 1143) وارتجل على أُرغُن “كنيسة السيدة العذراء” فيه مقطوعةً قصيرة. ولاحقًا أُنشِئَت على اسمه في الدير صالة للكونشرتُوَات.

وفي تلك الرحلة ذاتها وضع موسيقى 6 رقصات أَلمانية بطلب من جوزف پاتْشا أَحد أَبرز داعمي الفنون في عصره. ولاحقًا تحوَّل أَحد قُصور آل پاتشا “فندق موزار” في پراغ. وهو عاش في ذاك القصر كما عاش فترات قصيرة أُخرى في عدد من القصور إِبان إِقامته، لكثرة ما احتفى به أَثرياء المدينة.

تمثال نصفي لموزار في مبنى الكونسرفاتوار

ألَّف أُوپرا في عربة الخيل

بعد تينك الزيارتين في سنة واحدة، زار موزار پراغ ثالثةً سنة 1789 لليلة واحدة في طريقه إِلى برلين. وفي طريق عودته عرَّج على پراغ مرةً رابعة وأَمضى ليلة أُخرى في ڤيلا بيرتْرامكا لدى صديقه فرانتز دُوزيك وزوجته جوزيـپـيـنا.

زيارته الخامسة (والأَخيرة) كانت في آب/أُغسطس1791 تحضيرًا قيادتَه الأُوكسترا في أُوپرا له جديدة احتفاءً بتتويج الأَمبراطور ليوپولد الثاني (1747-1792) حاكمًا على بوهيميا التي كان مجلسها أَعيانها الأَعلى كلَّف موزار وضع مقطوعة للمناسبة فوضع أُوپرا “غفران تيتوس” من فصلين عن نص من  شعر كاترينو ماتسولَّا. وفي بعض النصوص البيوغرافية أَنه أَلَّفَ موسيقاها في العرَبة التي أَقَلَّتْهُ من ڤـيـيـنّـا إِلى پراغ.

ليلة 6 أَيلول/سپتمبر، بعد قيادته الأُوركسترا بنجاح، أُصيب موزار بعارض صحي. لكنه تعافى بعد أَيام، وعاد إِلى ڤـيـيـنّـا وقاد الأُوركسترا في عمله الأَخير “الناي المسحور” في 30 أَيلول/سپتمبر 1791. لكن صحته ساءَت من جديد، فلَزم الفراش في 20 تشرين الثاني/نوڤمبر ولم يعُد ينهض منه حتى وفاته في 5 كانون الأَول/ديسمبر.

وفاء براغ بعد وفاته

كرَّمته پراغ بعد وفاته بأُسبوعين (14 كانون الأَول/ديسمبر) فشهدت “المدينة الذهبية” قداسًا على نيَّته في كنيسة القديس مرقص رنَّمَت فيه السوپرانو جوزيـپـينا دُوزيك لحنًا جنائزيًّا لأَنطونيو روزيتّي (1750-1792) فيما الأَجراس تقرع حُزنًا في أَرجاء المدينة.

ومن فصول تكريمه في پراغ بعد غيابه: فيلم “أَماديُوس” (1984) للمخرج التشيكي ميلوس فورمان (1932-2018) وهو صوَّره في الأَماكن الأَصلية الحقيقية: مسرح المدينة، الكنائس، الشوارع، الحانات، القصور التي سكن فيها موزار.

وفي پراغ أَيضًا (وهي موحيةٌ للكثيرين من المؤَلفين الموسيقيين) صدر أَول كتاب في أُوروپا عن موزار سنة 1798 (بعد سبع سنوات على وفاته) وضعه الناقد الموسيقي فرانتز نْييمْتْشيك (1766-1849).

وحديثًا، في تشرين الثاني/نوڤمبر 2015، أَعلن “المتحف التشيكي للموسيقى” أَنَّ المؤَلف الموسيقي الأَلماني تيمو هرمان (وُلد سنة 1978) اكتشف في محفوظات المتحف القديمة مخطوطة مقطوعة “نقاهة أُوفيليا” للسوپرانو والبيانو، كان وضعَها موزار وأَنطونيو سالييري سنة 1785 (عن مقطوعات شعرية من لورنزو دا پونتِه). وكان مؤَرِّخو موزار جزموا أَن المخطوطة ضائعة. وهذا الاكتشاف ينفي إِشاعاتهم عن خلاف حاد بين موزار النمساوي ومعاصره الإِيطالي سالييري.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى