أوبريتّا “المملكة الخضراء” في احتفال موسيقي ضخم

عمّار مروّه*

مغناة “مملكتي الخضراء” (*)، من شعر هنري زغيب وتلحين وتوزيع أُسامة الرحباني، هي “كانتاتا” أو “أوبريتّا” ذات مقدمة تمهّد لأربع حركات، تسترجع “موتيفًا” يتصاعد بــ”كريشندو” أحاسيس موسيقية مركَّبة بفنون التأليف والتنويع، تُستعاد دائمًا بتفريدٍ راقٍ يروي سيرة الزمن على الأرض الخضراء، بين قدوم وأُفول أربعة فصول تتحرك موسيقيًا بالتزامن.

وعي المواطن على البيئة

تناولت هذه الـمغناة بالتأليف حياة مملكة خضراء (المملكة العربية السعودية) تنطبق عليها رحابة المملكة الفنية الرحبانية التي لا حدود لها إلا في العلاقة الصحيّة بين الموسيقى والشعر من جهة، والطبيعة والألوان والفصول من جهة أخرى. لعلها أغنية من طراز رحباني يحتفل بسؤال الفن المفتوح على إبداع حقيقي يحيي الشعوب والسلام، ويلتزم الصدق في التعبير الفني الراقي، بعيدًا عن التزلف والتلوث والهبوط، ويخاطب وعي المواطن على أهمية السلام، والسماء المفتوحة على بيئة خضراء وطبيعة خلّابة يتفاعل معها الفنان والمُتلقي فنيًا معًا، في عمل يبثُّ الأفكار الإيجابية ليبتكر سماءه المفتوحة على أنوار الشمس والقمر والنجوم، وهي ترخي ضياءها الإلهي بحب وكرَم على البحر والتراب والزرع والثمر والكائنات والمخلوقات.

أجمل الأغاني هي التي تعرف كيف تطرح فنيًا أسئلة المحبة بكرم العطاء، وحصاد زرعها في تربة الفن الخصيبة، وهي تغازل وهج الشمس ونورها موسيقيًا، في علاقة تأخذ التأليف الموسيقي إلى ما يربط المقام الموسيقى بالوزن الشعري من جهة، وبتعدد الألوان الطبيعية والموسيقية من جهة ثانية، ثم بينها جميعًا وبين التفاعل بقوة تعبير يربط إيقاعاتها بإيقاعات الطبيعة والفصول الأربعة. قد يكون بعض الجواب في قصيدة هنري زغيب ومغناة أسامة الرحباني اللذين تلاقَيا بعلاقة فنية لإنجاز التعبير عن هذه المواضيع أعلاه بـدلالة فنية محددة أفصّلها في ما يلي:

ميلوديا بألوان الفصول

للفصول ألوان وإيقاعات: فللصيف اللون الأزرق، وللربيع الأخضر، وللخريف برتقاليٌّ يميل إلى الاحمرار واصفرار الغروب، ويميل الشتاء بخفوت إلى الأبيض الثلجي المتموج بالرمادي. كل ذلك ترجمه المؤلف الموسيقي الموهوب المقتدر ألوانًا بِقُوّة تعبير موسيقية قادرة على تجسيد فني باهر. لوّن أُسامة لحنه بتأليف موسيقي مركَّب فسكب الألوان على النوطات لتتوازى مع الألوان الطالعة من النص الشعري، واستلهم ألوان الفصول الأربعة في تأليف كبير طرّزه بأفكار توسلت أسلوب التأليف السمفوني المركَّب بألوان الكتابة الأوركسترالية وبتلوين أصوات كورس الأطفال، فتفاعلت العناصر بعضها ببعض، ميلوديًا وهارمونيًا بتقنيات بوليفونية تزدهر ميلودياتها أفقيًا بالهارموني، وتسطع بنَقْلة بارعة في استعمال حركة التغيير في الفصول الأربعة، عبر تقنية نقْلٍ مقاميّ ارتدى تلك الألوان بتعبير فني  أفقي وعمودي كشف معنى الكلمة في التعبير الشعري عن طبيعة الفصل (“أُخُوَّةُ الكلمة والنغمة”: وصية الأخوين عاصي ومنصور بتطويعهما النص واللحن فنيًا). هكذا، مثلًا، لوَّن أسامة الصيف موسيقيًا بفرح مقام “العجم” (تحديدًا F MAJ ) في مطلع القصيدة:

“خضراءْ… خضراء…

مدينتي خضراءْ…

مملكتي خضراء…

وبيئتي أُحبُّ أَن أَحفظَها خضراءْ”.

ثم يتعالى تلوين النص الشعري بألوان تَتابُع الفصول عبْر نقْلات مقامية تعبيرية أخرى موفقة في صلابة وشفافية قوتها، متنقلة بالتعبير عن طبيعة الفصول من مقام العجم إلى مقامات النهوند (تحديدًا علىD Min) عند دخوله فصل الخريف. ويتابع أُسامه النقل المقامي بين الفصول إلى الشتاء فالربيع تتاليًا على حجازDo  يليه F Min  لينهي المفاجآت المقامية عند ختام النص الشعري على مقام MAJ A Flat .

في السياق الرحباني الخلَّاق

الباهر في عمل أُسامة أنه وشَّح التعبير عن هذه العملية الفنية بلوازم الكتابة الأوركسترالية فتوسّلها بتفكير سيمفوني، ونجح في شق طريق الفخامة المركَّبة بأوركسترا كبيرة رافقها كورس أولاد، فاستخدم تارةً مجموعة الوتريات، وتارة أُخرى مجموعة النفخ، ومزجهما أَحيانًا معًا (كما في فصل الشتاء). وترك أُسامة لكورس الأطفال، وهذه أول مرة في التوزيع، حرية الحركة والتصفيق، ما أعطى أجواء فرح وثقة بإمكاناتهم. وأُسامة من فنانين قلائل يجيدون الابتكار في عملية حساسة تناسب فنون التنويع والانتقال من نغمة إلى نغمة، والبراعة في ألوان الأوركسترا المختلفة.

“كانتاتا” أُسامة الرحباني وهنري زغيب تنتمي إلى عالم تأليف موسيقي كبير يعرف كيف يحاكي الصورة الشعرية بالعمل الموسيقي المركَّب تأليفًا وتوزيعًا أوركستراليًا، فيغرف من منبعَين: فن التأليف الموسيقي العالمي الكبير، وتراث المملكة الرحبانية بكل عظمتها وبهائها اللبناني الخالد.

إنه عمل متْقن بالكلمة الشعرية والنص الميلودي يرسم السلام والزرع والاخضرار ونظافة البيئة الخضراء والسماء المفتوحة على ضوء الشمس والقمر والنجوم هي تلقي بأنوارها على البحر والسهول والجبال. وهو عمل نظيف شفاف متوَّج بالفن الرحباني المرتفع دومًا إلى سماء الإبداع شعرًا ولحنًا وتوزيعًا ونسيجًا أوركستراليًّا أفرد مساحة كبيرة للأطفال وأجيال جديدة تريد أن تبدّل التلوُّث والحروب بالتشجير والسلام والمحبة.

  • عمّار مروّه هو صحافي لبناني مُقيم في بلجيكا.
  • مغناة “مملكتي الخضراء”هي عرض موسيقي أوركسترالي ضخم مع 100 موسيقي وكورس أولاد على مسرح احتفال ““Joy Awards الذي احتضنَتْهُ المملكة العربية السعودية ضمن فعاليات “موسم الرياض 2022”.
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى