عميدُ “الأَكاديميَا الفرنسية” تَذَكَّرَ أَن يَـمُوت

كتاب أُوبالديا – الطبعة العربية.

هنري زغيب*

كان ذلك ليلة 28 أَيار/مايو 2017. كنتُ أُتابعُ برنامج “Thé ou Café” على القناة الفرنسية الثانية (FR2)، والمذيعة تستضيف كاتبًا في التاسعة والتسعين صدَر له قبل أَيامٍ كتابه الجديد “Perles de Vie”. في نهاية الحلقة اكتشفتُ أَنه كاتبٌ ساخرٌ استثنائي ذو كتاب استثنائي، وأَنه عميدُ “الخالدين” أَعضاء “الأَكاديميَا الفرنسية” (عميد السن فيها منذ 1999).

هكذا اكتشفْتُ رُنيه دو أُوبالديا.

في اليوم التالي اتصلتُ بناشر كتُبي عهدذاك نديم درغام، عارضًا عليه أَن أُترجمَ الكتاب فيُصْدرَهُ بالفرنسية والعربية معًا. يومها لاقاني نديم بالحماسة ذاتها فراسلَ منشورات “غراسيه” ونال إِذنها. رُحتُ “أَتلَمَّظُ” ترجمة الكتاب، وهو مجموع أَقوال حكَميَّة لكُتَّابٍ، كان أُوبالديا كلَّما قرأَ واحدةً منها يُدوّنها كيفما اتفق على قصاصات متفرقة متناثرة، حتى اقترحَ ناشرُه إِصدارَها فلَملَمَها من تلك الوريقات وصدَرت في كتاب.

وكنتُ، إِبَّانَ إِدارتي منشورات عويدات في بيروت (1972-1976) اعتدتُ أَن يطلب أَحمد عويدات كلمةً خاصة من المؤَلف للترجمة العربية، فقمتُ بالمحاولة ذاتها. لكن مديرة “غراسيه” أَجابتْنا أَنَّ هذا صعبٌ “بسبَب سنِّ أُوبالديا”. لم أَقتَنع. وشاءَت المصادفة السعيدة أَنْ حين سأَلتُ عنه الصديقة ڤينوس خوري غاتا أَجابتْني أَنه صديقٌ لها وهي ستَسْتَكْتِبُه كلمة. وفعلًا، بعد أُسبوع كانت الكلمة عندي وصدَّرتُ بها ترجمتي العربية، ومنها: “… هذه عبارات متفرقة كنتُ دوَّنتُها، توجز نفثاتٍ من الحِكَم لاقى صدورُها رُدُودًا إِيجابيةً أَثَّرَت بي وأَدهشتْني. وها هي اليوم تذهب إِلى مغامرة جديدة مع الشاعر اللبناني هنري زغيب يَنقلها إِلى اللغة العربية”.

صدَر كتابي في خريف 2018. اتصلتُ بأُوبالديا مرَّتين لهدَفَين: أَن أُهنِّئَه بذكرى ميلاده المئة (وُلِدَ في 22 تشرين الأَول/أُكتوبر 1918) وأُعْلِمَهُ بصدُور الكتاب.

لم يكن يجيب. اتصلتُ بابنته كلير أُوبالديا في پاريس فقالت لي إِنه مشغول جدًّا بمواعيد متتالية وخصوصًا في “الأَكاديميا الفرنسية”، ويحرص كلَّ خميس أَن يحضر اجتماعها الأُسبوعي، ويخرج يوميًا للمشي وشراء الصحف والمجلات وزيارة أَصدقاء.

سأَلتُها تبليغَه معايدتي إِياه، وبقيتُ دقائقَ مذهولًا بعد إِقفالي الهاتف: رجل يحمل فيه 100 سنة من العمر، ولا يَهدأُ عن نشاط.

ومـرّ عام…

في 3 تشرين الأَول/أُكتوبر 2019 كنتُ – في مركز التراث اللبناني (الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU) تَعاوُنًا مع “كرسي جبران” في جامعة ميريلند الأَميركية – نظَّمْتُ المؤْتمر الدولي الرابع لجبران لدى معهد العالم العربي في پاريس. غداة المؤْتمر اتصلْتُ بصديق العمر الكاتب عبدالله نعمان (وكان شاركَ معنا في مؤْتمر جبران) وسَأَلْتُهُ أَن يصطحبني إِلى زيارة أُوبالديا. وهكذا كان.

ما إِن قرعنا الجرَس حتى انفتحَ على رجلٍ ذي عصا، أَطلَّ علينا كما من مغارةِ كتُبٍ مصلوبةٍ على الأَربعة الجدران العالية لا أَظنُّ أَحدًا منها ينافس صاحبَها يوبيلًا مئَـويًّا. رحَّب بنا وابتهجَ، وُقُوفًا، بصدور الطبعة العربية من كتابه، شاكرًا ڤينوس خوري غاتا على سعيها لديه إِلى مقدمته لهذه الطبعة. وبادَرني برأْي ڤينوس في ترجمتي فاستند إِلى رأْيها وهنَّأَني على أَمانتي في ترجمة نُصُوصه.

تَوَكَّأَ على عصاه ليجلس فعاجلتُه بتهنئتي إِيّاه، ولو قبل الموعد (22 تشرين الأَول/أُكتوبر) بذكرى مولده الأُولى بعد المئة، ورُحتُ أُمْطِره بأَسئلةٍ يُغلِّفُها فُضولي عن سر طول العُمر. لكنه، بذكاء ابن المئة، لم يدَعْني أَسترسل. أَفهَمَني أَن السر في كلمة واحدة “الـحُب”، نعيشه فنحيا وننسى أَن نموت.

بعدذاك، كلما سـأَلتُ عنه عبدالله يُجيبني أَنه يتصل به أَحيانًا، وأَنه في صحة جيدة، فأَفهم أَنه ما زال في الحب، لا ينتبه للعمر ولا يَتَذَكَّر أَن يموت.

قبل أَسابيع (22 تشرين الأَول/أُكتوبر 2021) هنَّأَت “الأَكاديميَا الفْرنسية” عميدَها ببلوغه 103 سنوات.

أَمس الأَول كتب لي عبدالله: “مات أُوبالديا. مأْتم رسميّ: الأَربعاء 2 شباط/فبراير”. فتذكَّرتُ جلستَنا إِليه وفهمْتُ.

فهمْتُ لا أَنه “مات” بل أَنه هذه المرة… “تَذَكَّر”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib 
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

 

من كتابه “جواهر عمر”

 

لولا الشيطان لَمَا بلَغ الله هذه الشعبيَّة.

جحيمُ الله أَنه يُحب البشر.

قليلةٌ هي الأُمور المشترَكَة بيني وبيني.

السعادة الحقيقية أَن نتذكَّر الحاضر.

المتشائم متفائلٌ مُطَّلع.

تروم أَن تبلُغ المئة؟ إِبدأْ بها منذ شبابك.

يلزمنا عمر طويل كي نُصبح في سن الشباب.

النمل لا يعلن الإِضراب أَبدًا.

يَغْرب التعب حين يُشرق الحب.

البجع يغنّي قبل أَن يموت. ليت كثيرين يموتون قبل أَن يُغَنُّوا.

الـمُضْجر حين أَموت، أَني سأَشتاق إِلَـيّ.

أَنا معتادٌ على الموت. طويلًا كنتُ ميتًا قبل أَن أُولَد.

الأَمراض تمارينُ على الموت.

لو نحبس الرمق الأَخير في إِناء مُعقَّم.

لم أَعُد في سِن أَن أَموت شابًّا.

شاشة التلڤزيون علْكةٌ للعين.

يتكلَّم قليلًا مَن لديه كثيرٌ يقولُه.

تُعيرُ السوى بعضًا منكَ، وَتُبقي كُلَّكَ لكَ.

الممثلة امرأَةٌ أَكثر. الممثلُ رجُلٌ أَقلّ.

الموت فداءَ المرأَة التي نُحِبّ، أَسهلُ من الحياة معها.

أَكثر النساء إِخلاصًا مَن لم تَـخُن أَيًّا من عُشَّاقها.

على الزوج أَلَّا ينامَ قبل زوجته، وأَلَّا يستيقظَ بعدها.

تنتقمُ ممَّن خطَف زوجتَك؟ أُتركْها له.

المرأَةُ الجميلةُ جميلةٌ أَقلّ صباح اليوم التالي.

المرأَة تحفظ سرًا واحدًا: الذي تَـجهَلُه.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى