كَيفَ تَدُورُ رُحى الصِراعاتِ في الشَرقِ الأوسَط على وسائلِ التَواصُلِ الاجتماعي

بعدما كانت وسائل التواصل الإجتماعي عند انطلاقتها همزة وصل للتعارف والتواصل ونشر المعرفة تحوّلت في ما بعد إلى أداة للحكومات الاستبدادية والمنظمات الإرهابية‘ خصوصًا في الشرق الأوسط، لنشر دعاياتها ومعلوماتها المُضلّلة وأخبارها الكاذبة.

الإنترنت: صارت ساحة لصراعات الشرق الأوسط

ميشال مظلوم*

كان الشرق الأوسط الأوسع على الدوام مليئًا بالعداء والتنافس، وقد استفادت أنظمته منذ فترة طويلة من الروابط اللغوية والدينية والثقافية العديدة في المنطقة لتشكيل البيئة السياسية الشاملة. الأنظمة التي لا تتحكّم في فضاء المعلومات مُعَرَّضة للتدمير بواسطتها.

الشرق الأوسط بعيدٌ كلّ البُعدِ من العزلة. عمليًا، يُمطِرُ كلّ نظامٍ استبدادي شعبه بالدعايات والإدعاءات الكاذبة في أكثر الأحيان، بدءًا من التلفزيون الذي تسيطر عليه الدولة إلى حملات وسائل التواصل الاجتماعي على مجموعة واسعة من المنصّات. ومع ذلك، قد يكون الشرق الأوسط عُرضةً بشكلٍ خاص لعمليات التأثير الأجنبي. بالإضافة إلى المنافسات الإقليمية الشديدة، فإن الافتقار إلى وسائل الإعلام الحرة في غالبية البلدان وانعدام الثقة في الحكومات والمؤسسات يجعل المنطقة عرضةً للخطر بشكلٍ خاص.

هذا الاتجاه يتعزّز من خلال المؤامرات الفعلية، بما في ذلك انقلاب العام 1953 الذي أطاح رئيس الحكومة محمد مصدق في إيران، والذريعة الزائفة لأزمة السويس، ومحاولات لا تُعَدّ ولا تُحصى من قبل الحكومات الإقليمية لإضعاف وإسقاط بعضها البعض. بالإضافة إلى ذلك، فإن الروابط الدينية والتاريخية واللغوية المشتركة، المُتَجَسِّدة في مفاهيم، مثل القومية العربية والأمة لإسلامية، تخلق روابط عابرة للحدود الوطنية وتُعزّز نقاط الضعف. من السهل على الأفكار أن تعبر الحدود، وبذلك يُمكن أن تُلهِمَ أو تُخيفَ أو تُخرِّب.

أصبحت حملاتُ وسائل التواصل الاجتماعي الآن أداةً عادية لحكومات الشرق الأوسط وبعض المنظمات الإرهابية، وتستخدمها أيضًا حكوماتٍ مثل روسيا التي تسعى للتأثير في الشرق الأوسط. بدأت المواجهة بين البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة (ما يسمى ب”الرباعية”) وقطر، على سبيل المثال، في العام 2017 جُزئيًا بسبب استغلال وسائل التواصل الاجتماعي التي انطوت على اختراق حسابات البريد الإلكتروني وما يرتبط بها من معلوماتٍ مُضَلِّلة. تصاعد الأمر إلى مناوشات ضخمة على وسائل التواصل الاجتماعي بين الجانبين عبر العالم الإسلامي الأوسع والتي استمرت حتى العام الفائت. تضمّنت هذه الحملة لاحقًا جهودًا لتشويه سمعة حليفة قطر، تركيا، وضمّت جهات فاعلة في الحروب الأهلية في ليبيا واليمن أيضًا. من جهتها، أنشأت إيران شبكة من المواقع الإلكترونية المُزَيَّفة والشخصيات على الإنترنت، وهي عملية أطلق عليها المختبر المتعدد التخصصات في الشؤون العالمية والسياسة العامة في  جامعة تورنتو، “مختبر المواطن” (The Citizen Lab)، اسم “ذبابة أيار التي لا نهاية لها” (Endless Mayfly) لنشر معلومات كاذبة عن المملكة العربية السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة. كما أنشأ فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني وحدة إلكترونية ل”حزب الله”، والتي تعمل على المهاجمة وجمع المعلومات الاستخبارية في الفضاء السيبراني، وتعمل تحت قيادة فرقة التجسّس في الحزب بقيادة نجل حسن نصر الله. وتخدم هذه الوحدة السيبرانية عناصر “حزب الله” وأعضاء فيلق القدس الإيراني، وأهدافها الرئيسة هي نشر الأخبار المُضللة وإحباط التجسس والأنشطة التخريبية ضد “حزب الله” وإيران. وهي تجمع بشكل أساسي معلومات عن المواطنين اللبنانيين من خلال قدرات مهاجمة الهواتف المحمولة واعتراض اتصالات ال”واي فاي” (Wi-Fi) وجمع المعلومات من الشبكات الاجتماعية وقواعد البيانات والتسلل إلى شبكات وزارات الحكومة اللبنانية وغير ذلك من عمليات نشر المعلومات المضلّلة والكاذبة التي تخدم أهداف الحزب. وفي إسرائيل أنشأ الجيش “وحدة 8200” المسؤولة عن التجسّس الإلكتروني، والتي من أهدافها الرصد والتنصّت والتصوير والتشويش ونشر المعلومات المُضلّلة على الإنترنت التي تُفيد الدولة العبرية. وعلى المستوى الفردي أكثر، استهدفت المملكة العربية السعودية المُعارضين مثل جمال خاشقجي، في محاولة لجعل حياته على الإنترنت جحيماً – “يُعادل إطلاق النار المستمر على الإنترنت”، كما قال أحد أصدقائه.

لماذا وسائل التواصل الاجتماعي مفيدة جدًا لحكومات الشرق الأوسط؟

تُقدِّمُ وسائل التواصل الاجتماعي للحكومات مزايا عديدة في عملياتها المعلوماتية. ربما الأهم من ذلك، أن حملات وسائل التواصل الاجتماعي رخيصة نسبيًا ولديها حواجز مُنخفضة للدخول. نظرًا إلى أن الكثيرين من الشرق أوسطيين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، فإن التلاعب بهذه المنصّات هو وسيلة غير مُكلفة للأنظمة للتأثير في جماهير كبيرة. علاوة على ذلك، فإن حواجز الحماية لشركات التواصل الاجتماعي تكون أضعف خارج بيئة اللغة الإنكليزية، حيث تُركّز أكثر على الربحية والابتكار قبل الأمان وجودة المعلومات.

الحجمُ مُهِمٌّ أيضًا. من المُرَجَّح أن يتمَّ تصديق الشائعات والمؤامرات إذا تعرّض الناس لها وسمعوها وقَرَؤوها بشكلٍ مُتكرّر، والدفع المستمر للمؤامرات وتكرارها على منصّاتٍ مُتعدّدة يمكن أن يجعل الغرائب والأكاذيب قابلة للتصديق.

كما تمنح حملاتُ وسائل التواصل الاجتماعي درجةً من الإنكار. تُموّل دولٌ عدّة شركاتٍ خاصة سرّية، وتشجّع مواطنيها على التصرّف بمفردهم، أو ببساطة تتسامح مع أنشطة مثل القرصنة والمُضايقات الإلكترونية، ما يجعل من الصعب العثور على خيط علاقة يربط الحكومة بعملٍ مُعَيَّن.

غالبًا ما تكون مصادر وسائل التواصل الاجتماعي أكثر موثوقية من وسائل الإعلام التقليدية. تنقل العائلة والأصدقاء الأخبار والمعلومات الأخرى عبر فايسبوك ومنصّات أخرى، ويؤيدونها ضمنيًا، وتصبح مصادرَ موثوقًا بها أكثر من وسائل الإعلام والحكومة. عندما تستطيع الحكومات الاستفادة من هذه الشبكات الشخصية، فمن المرجح أن يتم تصديق رسائلها ودعمها.

أخيرًا، تُقدّمُ وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا مزيجًا ممتازًا من التمايز والوصول. تُعَدُّ المنصّات الضخمة مثل “تويتر” و”يوتيوب” و”إنستغرام” طُرُقًا رائعة للوصول إلى النخبة السعودية التي تُركّز على السياسة بالإضافة إلى المزيد من السعوديين العاديين الذين قد يستخدمون هذه المنصات للرياضة والعمل والترفيه. في الوقت نفسه، من خلال الاستهداف الدقيق يُمكن للأنظمة أن تُركّز رسائل أكثر تخصّصًا على فئات مختلفة، مرة أخرى بتكلفة منخفضة نسبيًا. لا يخضع الاستهداف السياسي الدقيق للتنظيم، خصوصًا للمستخدمين غير الناطقين بالإنكليزية.

كيف تلعب حملات المعلومات المُضَلّلة على وسائل التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط؟

تستخدم هذه الحملات والدول التي تقف وراءها عددًا من الأدوات لزيادة تأثير جهود وسائل التواصل الاجتماعي. يتضمّن ذلك إنشاء مواقع إخبارية مُزَيَّفة، وتعديل محتوى المواقع الشرعية، وإنشاء شخصيات مُزَيَّفة تتنكّر كصحافيين أو شخصيات مُعارِضة، و”الاستيلاء المطبعي” من خلال الاستفادة من الأخطاء الشائعة (مثل “thejerusalempost .org” (الموقع الحقيقي هو “jpost.com “) والعديد من الأساليب الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، يمكنهم ببساطة إنشاء مكبر صوت افتراضي، باستخدام الروبوتات والجيوش البشرية لإعادة التغريد، و”الإعجاب”، ومواجهة النقاد، مع تعزيز المحتوى المؤيّد للنظام أو التنظيم.

في بعض الأحيان توجه السلطات أو بعض التنظيمات (مثل “حزب الله”) جيوشهم الإلكترونية المُتصيّدة إلى النقاد الداخليين، مثل منتقدي الرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا. هذه المضايقات المستمرة تجعل الحياة على الإنترنت بائسة بالنسبة إلى هؤلاء الأفراد، ما يؤدي إلى إرهاقهم من خلال الإساءة المستمرة. كما أنه يردع الناس العاديين عن متابعتهم، لأنهم يسعون إلى تجنّب بالوعة من الاتهامات والإساءات المُرتبطة بحسابات النقاد.

هناك طريقة أخرى وهي الاختراق أو الوصول إلى المعلومات الخاصة للمنافس ثم نشرها بشكل انتقائي. في حزيران (يونيو) 2017، قبل أيام من الانقسام العام والدائم بين قطر والرباعية، أرسلت مجموعة تُدعى “غلوبال ليكس” (GlobalLeaks) نسخًا من رسائل البريد الإلكتروني وغيرها من الوثائق المُختَرَقة لسفير الإمارات العربية المتحدة في الولايات المتحدة إلى العديد من وسائل الإعلام الأميركية.

في بعض الأحيان، يكون الهدف (أو النتيجة على الأقل) هو أن لا يعرف المواطنون ما الذي يؤمنون به وبالتالي يتجاهلون جميع مصادر الأخبار أو يفقدون الثقة في المؤسسات التقليدية. تُشير فايسبوك إلى أن البعض “شارك في ما نسميه ‘اختراق الإدراك’. وهذا يعني، بدلًا من تشغيلِ حملات فعلية على المنصة أو المساومة على أنظمة الانتخابات، فهم يحاولون كسب التأثير من خلال تعزيز التصوّر بأنهم موجودون في كل مكان، واللعب على الناس وخداعهم على نطاق واسع”. ومما زاد الطين بلة، أن مجموعة من المواقع الموثوقة لقادة سياسيين ورجال الدين وغيرهم تنشر أفكارًا بغيضة أو خاطئة، غالبًا مع تدخّلٍ ضئيل من شركات التواصل الاجتماعي على الرغم من انتهاك شروط خدمتها.

تتباين بشكل كبير قدرات ووسائل الجهات الحكومية لنشر المعلومات المُضلّلة. يوظف الكثيرون شركات خارجية لإدارة جُزءٍ على الأقل من جهودهم. أنشأت المملكة العربية السعودية “مزرعة ترول” (troll farm) التي تحدد الرسائل لتضخيمها ودفع أجور العاملين لتحديد الأصوات على “تويتر” التي يجب إسكاتها. يتلقى العاملون في المزرعة قوائم يومية بأسماء الأشخاص الذين ينبغي تهديدهم وإهانتهم، وزيادة الرسائل المؤيدة للحكومة، وتعليمات أخرى.

ما هو تأثير حملات المعلومات الكاذبة والمُضلّلة هذه؟

من الصعب الحكم على تأثير هذه الحملات. كانت “الرباعية” مصممة على تصعيد الضغط على قطر، وكانت حملة وسائل التواصل الاجتماعي نتيجة هذه المواجهة وليست السبب. على الرغم من أن إيران كانت قادرة على نشر دعايتها وإعادة تغريدها – يقدر “مختبر المواطن” الكندي أن إيران ولّدت 21,685 نقرة على محتواها “ذبابة أيار التي لا نهاية لها” (Endless Mayfly)- إلى أي مدى غيّرت من عقول؟ ومَن كانت تلك العقول؟ ليس واضحًا.

لحسن الحظ أن أنظمة الشرق الأوسط ليست على مستوى روسيا عندما يتعلق الأمر بالتضليل الإعلامي. غالبًا ما تكون إيران، من خلال دعايتها المُعادية لأميركا، “مُتَسَرِّعة في التنفيذ” عندما يتعلّق الأمر بالعمليات، وفقًا لخبير المعلومات المُضَلّلة كلينت واتس. وبينما جعلت المملكة العربية السعودية بالفعل حياة خاشقجي على الإنترنت جحيمًا حيًا، فإن هذا لم يردعه، مما دفع النظام إلى اللجوء إلى تكتيك الاغتيال الأكثر احترامًا للوقت. وقد وجد الباحثان جينيفر بان وألكسندرا سيغل أن سجن النظام السعودي للمعارضين وأنواع القمع الأخرى قد رَدَعَ النقاد، لكنه أدّى أيضًا إلى زيادة الاهتمام بقضيتهم والمزيد من المعارضة عبر الإنترنت من أتباعهم.

كيف تكون مواجهة التحريف والتضليل عبر الإنترنت؟

يُمكن للحكومات الديموقراطية وشركات التواصل الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني المساعدة على مكافحة هذه الحملات. يوجد الكثير من الخبرة الفنية والمعرفة بالعمليات الجارية في القطاع الخاص، ويجب أن تكون الحكومات قادرة على الاعتماد على الخبراء فيها والتنسيق معهم. يجب على الولايات المتحدة والحكومات الديموقراطية الأخرى تحسين قدرتها التقنية ومعها قدرتها على اكتشاف هذه الحملات.

يجب على شركات وسائل التواصل الاجتماعي، من ناحيتها، تحسين قدرتها على حماية الحسابات وتجارب المستخدمين الخاصة بالمُعارضين، لا سيما أولئك الذين لا يعملون في بيئة باللغة الإنكليزية، وكذلك المستخدمين العاديين الذين قد تخدعهم المعلومات الكاذبة. يجب على هذه الشركات زيادة الأفراد والموارد التي تُخصّصها للمنطقة لمكافحة المعلومات الكاذبة والجهات الفاعلة التي تنتهك شروط الخدمة الخاصة بها. يجب أيضًا أن تكون أكثر انفتاحًا مع البيانات حتى يتمكّن الباحثون المستقلون من مراقبة الأنشطة، التي يُحتَمل أن تكون خطرة، بشكلٍ أفضل.

  • ميشال مظلوم هو صحافي من أسرة تحرير “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى