الدِينُ بَينَ سَندانِ الجَهلِ ومَطرقَةِ القانون

عبد الرازق أحمد الشاعر*

لم يَعُد الإلحادُ فسوقًا عن الدين أو الفطرة أو العرف فحسب، لكنه أصبح خروجًا على التقاليد والذوق العام والعقل في كثير من الأحيان. فلا يكاد المُجاهِرون بالكفر حاليًّا يكتفون بإعلان خروجهم على سلطان الله وشريعته، وعلى دين القبيلة وأعرافها، بل تراهم يخرقون سفينة المجتمع كله في تنمّرٍ غير آبه بالمقدسات والأنبياء والكتب. ولو استند هؤلاء إلى منطقٍ قويم أو رأيٍ مُستقيم، لدافَعنا عن حقّهم في الاختلاف والشطط، ولطالبنا بإخراجهم من غيابات السجون إلى دفء الدور ومُتّسع الصدور. لكن جرأة هؤلاء التي لا تتخذ من الشك دافعًا، ولا من التماس الحقّ منهجًا، وتعتمد تسفيه المُقدَّس بدون سند أو برهان هو ما يجعلنا نقف منهم موقف المُستَريب الحذر، ويدفعنا إلى ضمّ ثيابنا عنهم والتنكر لرغبتهم غير العادلة في لفت الأنظار وعدسات الكاميرات على حساب الخير والعدل والحقيقة.

آخر المُتنمّرات بالله ورسله أنيقة عتيق، فتاة باكستانية في السادسة والعشرين من عمرها، تم استدراجها عبر محادثة خاصة مع صديق عبر تطبيق الواتساب للتحدّث عن معتقداتها الدينية. فما كان من الفتاة العشرينية إلا أن أساءت الحديث عن الله ورسله، وسبّت الأنبياء والصحابة في قحة غير مبررة. فقام صديقها بالإبلاغ عنها بعد أن قام بتسجيل المحادثة التي دارت بينهما ليحكم عليها القضاء الباكستاني بالإعدام شنقًا بتهمة التجديف.

كانت أنيقة قد تعرفت إلى هذا الشاب من خلال لعبةٍ من ألعاب الهاتف النقّال، ومن ثم توطّدت العلاقة بينهما. يقول الشاب أن أنيقة استخدمت حسابها على الواتساب والفايسبوك في نشر الرسوم المُسيئة وإهانة الرموز الدينية للمسلمين. وتقول أنيقة في معرض نفيها وإنكارها للتُهم التي وُجِّهت إليها أن الشاب الذي استدرجها إلى هذا الحوار البذيء كان يُريد الانتقام منها لأنها رفضت أن تُبادله الهوى في حواراتهما الخاصة. ويقول الواقع أن الفتاة قد تعمّدت الإساءة إلى شخصيات مُقدَّسة وإهانة المعتقدات الدينية للمسلمين.

هكذا، لم يجد القضاة، الذين يُدرِكون حساسية القضية، بُدًّا من الحكم بالإعدام شنقًا على الفتاة، حيث أن المجتمع الباكستاني لا يتهاون في هكذا أمور. ولو أن أنيقة لم تُسجَن، لبادر الباكستانيون إلى تنفيذ أحكامهم الخاصة بشأنها. لهذا، وفي قاعة ضيِّقة لا تتّسع لرجال الصحافة، قام رجال القضاء، استنادًا إلى قانون منع الجرائم الإلكترونية الذي تمت الموافقة عليه في العام 2016، بإرسال الفتاة إلى المقصلة.

كان تيمور رازا أول من تعرّض للإدانة والإعدام على خلفية إهانته لأم سيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام في العام 2017. ومن بعدها، تكاثرت التجاوزات ليبلغ عدد الحالات التي اتهمت بالزندقة بين الباكستانيين ثمانين حالة نصفهم تم الحكم عليه بالإعدام شنقًا، رُغم أن أيًّا من هذه الأحكام لم يُنَفَّذ بعد. ربما كانت قسوة هذه الأحكام مُبَرَّرة في مجتمع شديد التمسك بالتعاليم السماوية وشديد الصرامة مع الخارجين على ناموس السماء، لكن أحدًا لا يستطيع أن يضمن أن يقلّ عدد حالات الكفر مُستقبلًا رُغم اليقين بسوء العاقبة.

والمُتتبّع لحالات الزندقة والخروج على شريعة السماء، يجد أن عدد الخارجين على سلطان الإله في هذا العصر أكثر من عدد الداخلين فيه، وهذا الأمر لا يقتصر على باكستان وحدها، بل يمتد ليشمل كافة الأقطار الإسلامية وغير الإسلامية والتي كانت حتى عهد قريب معاقل الدين في الأرض. وهناك بالطبع أسباب عدة، ليست موضوع هذا المقال، لما آلت إليه أحوال المستمسكين بحبل السماء وغيرهم من المنبتين عنها. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر تهميش دور الدين وتسطيح فكرة التديّن وسخرية وسائل الإعلام من رجال الدين وإظهارهم بمظهر الأفاكين الهراطقة أو المُزايدين المتنطعين أو الإرهابيين التكفيريين، وعدم التعامل بحيادية مع ضرورة التديّن وما يؤدي إلى استقرار وتماسك داخل المجتمعات. وهذا أمرٌ شرحه يطول ويحتاج إلى أن أفرد له مقالات وأبحاثًا مستقلة.

لا يمكننا التعاطف مع أنيقة أو تبرير موقفها لأن التنمّر لا يمكن أن يعتبر عملًا مقبولًا في أيّ مجتمع مهما بلغت درجة تحضّره، لا سيما وأنها قد أساءت بعباراتها المُسيئة إلى أكثر من مليار ونصف من سكان هذا الكوكب. كذلك لا يُمكننا اعتبار ما قام به صديقها، إن كان حقًّا ما تدّعيه، عملًا أخلاقًيا، بل هو جريمة لا تقل في نظري بشاعة عن جريمة الفتاة. وأعتقد أن المجتمع الذي فرّخ أجيالًا من السفهاء الذين يتجرَّؤون على سلطان السماء دون بينة أو سلطان يجب أيضًا أن يُحاسَب. وأخيرًا، يجب أن يقوم رجال الدين وعلماء الاجتماع بحماية الشباب من أخطار العولمة التي لم يعد لها هَمّ سوى نشر الفاحشة والفجور ومحاربة المعتقدات والقيم. وإن كانت أنيقة أخطأت، فكان من الواجب أن تُستتاب قبل أن يصدر بحقّها هذا الحكم القاسي من قبل قضاة تسوسهم القبيلة لا الفضيلة، وسندهم مقتضى الحال لا مقتضى العدالة.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى